في تاريخ الشعوب التي تواجه الاحتلال والقمع، تحتل الذاكرة الجماعية مكانة محورية ومفصلية في الحفاظ على الهوية الوطنية ومقاومة محاولات الطمس والنسيان داخل الذاكرة بحد ذاتها. الشعب الفلسطيني يُعد مثالًا حيًا لهذه المقاومة، حيث يلجأ إلى العديد من الأساليب لتخليد تاريخه ونضاله. واحدة من هذه الأساليب هي منح المواليد الجدد أسماء الشهداء، وهو تقليد يحمل أبعادًا اجتماعية، سياسية، وثقافية عميقة.
تسمية المواليد بأسماء الشهداء في فلسطين ليست ظاهرة حديثة، بل هي امتداد لتقاليد عربية وإسلامية تكرم الأبطال وتخلد ذكراهم، وأبرز مثال هنا هو تكرار اسم سيدنا محمد "صلى الله عليه وسلم". ومع تصاعد النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الاستعماري، أصبح هذا التقليد أكثر شيوعًا، خاصة بعد الانتفاضات الفلسطينية الأولى والثانية، التي شهدت سقوط أعداد كبيرة من الشهداء.
ويوجد أبعاد مهمة لهذه التسمية، أولها الحفاظ على الذاكرة الوطنية، حيث يضمن الشعب الفلسطيني استمرار ذكر هؤلاء الأبطال في الأحاديث اليومية وفي الحياة الاجتماعية. حيث يتحول الاسم إلى جسر بين الأجيال، ويتعرف الصغار على تاريخ النضال من خلال أسمائهم.
بالإضافة إلى أنها رسالة تحدٍّ للاحتلال، فالتسمية بأسماء الشهداء تُعد رسالة صمود وتحدٍّ للاحتلال الذي يسعى لمحو الهوية الفلسطينية. الاسم يُصبح شاهدًا على الجرائم التي ارتُكبت وعلى الإرث النضالي الذي يحمله الشعب، لأن كل شهيد يحمل معه حكاية فردية للمعاناة والقهر والظلم، وتُشكل هذه الأسماء الفردية كوكبة مجتمعة باسم الشهداء وحكاياتهم المتنوعة بالتفاصيل، والمجتمعة في الألم.
ومن جانب أخر تعمل هذه التسمية على تعزيز الروابط الاجتماعية، فالأسماء تخلق روابط معنوية بين العائلات الفلسطينية. عندما يُسمى طفل باسم شهيد من عائلة أخرى، ينشأ شعور بالتضامن والوحدة بين العائلات، خصوصاً إذا كان هناك فارق جغرافي ما بين جغرافية الشهيد، والمولد الذي يحمل الاسم، ما يعزز ذلك النسيج الاجتماعي، وأخيراً تعمل هذه الأسماء على تثقيف الأجيال الجديدة، فالطفل سواء ذكر أو انثى يحمل اسم الشهيد ويصبح مسؤولًا عن معرفة قصته وروايتها، مما يساعد في تثقيف الأجيال الجديدة بتاريخ النضال الفلسطيني.
وفي قطار العودة إلى الذاكرة الجماعية الفلسطينية هناك الأمثلة الكثيرة على استخدام الأسماء في جميع مفاصل التاريخ الفلسطيني، ونتذكر هنا الشهيد الطفل محمد الدرة، الطفل الذي استشهد في الانتفاضة الثانية، حيث أصبح اسمه شائع بين المواليد الفلسطينيين، وأسماء مثل الشهداء القادة مثل أحمد ياسين، وياسر عرفات، ومن قبلهم غسان كنفاني، وأبو جهاد، والتي تُستخدم في هذا السياق لإبراز رمزية القيادة والنضال، وتمنح شريعة لجدوى المقاومة.
ويمكن أيضاً العودة إلى أسماء مثل: إبراهيم النابلسي، وتامر الكيلاني، والشيشاني وغيرهم، وفي ذات المضمار، ما بعد السابع من أكتوبر 2023 تم تسمية أطفال بأسماء الفصائل مثل حركة حماس، وإطلاق أسماء على قيادة طوفان الأقصى مثل الشهيد يحيى السنوار، وإسماعيل هنية، ولم تتوقف حدود الأسماء عند هذا الحد بل وصلت حد إطلاق الاسماء باسم المدن الفلسطينية، وأبرزها مدينة القدس المحتلة، ويافا...، وربما هنا إذا جاز لي أتذكر كيف قامت والدتي بأطلاق اسم شقيقي الشهيد على الحفيد الأول للعائلة.
هذه التجربة في تاريخ الشعب الفلسطيني تُعبر عن مدى تمسك هذا الشعب بتاريخه بالدرجة الأولى، وفي العمق تحمل هذه التجربة رفضاً نفسياً لمنطق أن يكون الشهيد "خسارة" بل العكس هو باقٍ في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وذاكرة العائلة أيضاً، وأكثر يأتي هذا السلوك الجمعي رفضاً لرواية الاحتلال، حيث يندرج هذا السلوك تحت صراع الروايات ما بين الاحتلال والشعب الفلسطيني، ويمكن ملاحظة ذلك كيف يقوم الشعب الفلسطيني بتسمية الطرقات، والمدارس، وغيرها بأسماء الشهداء، لتثبيت الرواية التاريخية التي يُناضل لإثباتها.
وفي سياق هذه الكلمات، يندرج سلوك الشعب الفلسطيني تحت مظلة رفض الهزيمة والاستسلام، وأكثر بهذه الطريقة يقوم بتوثيق التاريخ المؤلم والصعب كما أسلفنا، ويُحافظ على حقه بالبقاء حتى عبر الأسماء، والأهم يرفض الشعب الفلسطيني الأسماء الدخيلة، سواء التي يحاول الاحتلال فرضها، أو تلك التي تأتي من الداخل الفلسطيني، لأن هذا الشعب يؤمن بأنه الذي دفع الفاتورة فهو الذي يكتب التاريخ.
في ظل محاولات الاحتلال طمس الهوية الفلسطينية، يبقى هذا التقليد العتيق الجديد أداة فعالة في مواجهة الذاكرة ضد النسيان. والحفاظ على التاريخ الفلسطيني من التهويد، فهو لا يقتصر على إحياء ذكرى الشهداء فحسب، بل يحمل رسالة للعالم بأن الشعب الفلسطيني مستمر في نضاله، وأن تاريخه المكتوب بالدماء لن يُمحى.
تسمية المواليد الجدد بأسماء الشهداء في فلسطين ليست مجرد تقليد اجتماعي، بل هي شكل من أشكال النضال الثقافي والسياسي. إنها تعبير عن إصرار الفلسطينيين على الحفاظ على ذاكرتهم الجماعية، وتأكيد على أن كل شهيد هو جزء لا يتجزأ من قصة الوطن. هذا التقليد يُجسد روح المقاومة والصمود التي تُميز الشعب الفلسطيني، ويُبرز أن النضال ضد الاحتلال ليس فقط على الأرض، بل أيضًا في الذاكرة والوجدان، حيث يؤمن الشعب الفلسطيني أن لكل شهيد اسم وعائلة، وحلم، والأهم حق بالحياة.