في مشهد دموي وتحت القصف المدفعي المتواصل والأحزمة النارية ورشاشات الطائرات المروحية والدبابات، والحصار المطبق لمخيم جباليا من الشرق والغرب ومنع إدخال المياه والطعام، نزحت مئات العائلات من مخيم جباليا قسرًا، تحت ضغط عسكري هائل كان أشبه بـ "يوم قيامة" أضاء وميض الصواريخ سماء ليلهم، وأسود نهارهم من شدة الدخان والقصف المتواصل.
استمر القصف في المخيم، باستهداف كل بيت تنبعث فيه أي معلم للحياة، أو يوجد فيه أي حركة أو ضوء، ما دفع العائلات للنجاة بأطفاله والانتقال من مكان لآخر، انتهى بهم المطاف بتجميعهم في بلدة بيت لاهيا التي يتواجد فيها أكثر من 150 ألف مواطن، فيما نجح الاحتلال بحاصر مراكز إيواء وأحياء سكنية بمخيم جباليا أجبرهم على النزوح لمدينة غزة وخضعوا لتفتيش مذل.
بدأت رحلة نعمة أنور في النزوح قبل تسعة عشر يومًا، من بيتها بمنطقة "تل الزعتر" بمخيم جباليا إلى مشروع بيت لاهيا، نتيجة القصف الشديد في منطقتها وهي لا تعلم أنها نزحت من "موت إلى موت أشد"، شاهدته عدة مرات، وصبرت على أمل حدوث هدنة أو انسحاب من جيش الاحتلال، مع تمسكها بشمال القطاع حتى آخر رمق.
تشبث حتى آخر رمق
تروي: "زاد الخطر علينا كثيرا، وأصبحت طائرات الاحتلال تنادي في كل المناطق: "أخرجوا من منازلكم إلى غرب غزة"، فرفضنا التوجه لأي مكان بسبب نزوحنا عدة مرات وجلسنا في المنزل رغم تصويب الاحتلال القذائف على سطح منزلنا".
مع زيادة الخطر والقصف خرجت العائلة في 22 أكتوبر/ تشرين أول الجاري، الساعة السابعة صباحا، وكانت تبحث عن مكان أكثر أمنا لها في منطقة سوق مشروع بيت لاهيا الذي كان يكتظ بالنازحين الذين لم يجدوا مكانا يؤويهم وباتوا في الشوارع، لكنها وجدت مكانا عند أحد الأقارب فباتت ليلة واحدة وكانت من أشد الليالي صعوبة عليهم من شدة القصف، مصحوبا بصراخ الأطفال والنساء الذين ناموا في الطرقات.
في مساحة لا تتجاوز ستة أمتار مربعة، مكث قرابة 40 شخصا على الأرض نتيجة ضيق المكان، وفي صباح اليوم التالي لم تتحمل والدتها هذا الضيق وقررت العودة للمنزل الذي نزحوا إليه في بيت لاهيا.
ترحل ذاكرتها لتلك اللحظات: "عندما جلسنا القليل من الساعات وبشكل مفاجئ حاصرنا جيش الاحتلال، من كل الاتجاهات وهنا رأينا الموت أضعافاً مضاعفة، قام الاحتلال بإطلاق الرصاص والقذائف بشكل عشوائي على المنزل حتى خُرق باب المنزل من شدة اطلاق الرصاص عليه".
تكمل: "قمت أنا والعائلة بالجري من المنزل على الدرج وجلسنا متلاصقين بجانب بعضنا البعض من شدة الخوف تحت بيت الدرج وبعدها قمنا بالمشي على أطراف أصابعنا خوفاً من أن يسمع جنود الاحتلال خطواتنا وهمساتنا فقمنا بإحضار فراش النوم ووضعناه بجانب بَعضهِ البعض وجلسنا ننتظر الصباح".
بعدما حل الصباح قامت والدتها بالنداء على الجيران في البيت المقابل، فلم يبق بالمنطقة سوى العائلتين وأخبرتهم بعزمهم التوجه لغرب غزة نتيجة خطورة الوضع في المكان، مضيفة: "قام الجيران بتجهيز أنفسهم وتجمهرنا سوياً مع بعضنا البعض وقامت أُمي بحمل الراية البيضاء والجميع خلفها والتقينا بجماعة أخرى تنزح فاتجهنا سوياً إلى الحاجز".
كان الجميع في حالة ذعر وخوف وكان الطريق متعباً من شدة ما يحملون من أمتعة ومأكل ومشرب حتى قابلتهم دبابة الاحتلال فصرخ الجندي من بعيد وهو يشهر السلاح تجاههم: "ارفعوا أيديكم إلى أعلى وتوجهوا إلى مدرسة "الكويت" القريبة من مستشفى الإندونيسي".
"قمت برمي ما معي أنا والجميع من مأكل ومشرب على الأرض وتوجهنا إلى المدرسة الذي لا معالم لها من شدة الحرق الذي حل بِها من قِبل الاحتلال وحضر أحد الجنود برفقة دبابة بدبابته وقامت كاميرا التصوير بتصويرنا وأعطى تعليماته لنا: "النساء تتوجه عن طريق شارع صلاح الدين دون التفات وأخذوا الرجال جمعياً حققوا معهم قليلاً وأخرجوا البعض منهم واعتقلوا البعض الآخر" تطفو بقية التفاصيل على حديثها.
لم تنته الرحلة بعد، فلا زالت ذاكرتها تعج بتفاصيل مريرة "توجهنا نحن النساء نحو الطريق الذي أخبرنا به الجندي الإسرائيلي وسِرنا مشياً على الرمال المتعبة والدبابات تصوب علينا رأس مدفعيتها حيث كان يوجد المئات من الدبابات في المكان وكانت حركة الدبابة من اتجاه لاتجاه وكانت تُثير الكثير من الرمال والغبرة علينا حتى حصل معي ومع الكثير من النساء نزيف من الأنف وأصبحت غير قادرة على التنفس أنا وأُمي وأَخواتي وتمزقت أيدينا من شدة ثقل ما نحمل".
طلبت أمها من أحد الجنود على الدبابة شُربة ماء فقام بالتلويح بيده بالسير إلى الأمام حتى وصلنا منطقة لا يوجد بها دبابات التقينا جميعاً على الأرض لنستريح ثم قمنا وتفرقنا كل مِنا في اتجاه، " عام وثماني عشر يوماً من الحرب عانينا كثيرا ورأينا الظلم والخوف والجوع والنزوح والفقد وكل شيء لا يتحمله حيوان وليس إنسان".
نداء من الأعلى
أما دينا أبو صلاح وعائلتها فعاشت قصة مختلفة من المعاناة هي وعائلتها، فبعد اشتداد القصف عليهم في محيط مستشفى كمال عدوان بمعسكر جباليا فجر 24 أكتوبر/ تشرين أول الجاري، استيقظت العائلة على صوت نداء قادم من طائرات إسرائيلية مسيّرة (كواد كابتر) تطالب الأهالي بالخروج من المنازل نحو بيت لاهيا قبل "تفجير المكان".
سبق التحذير أحزمة نارية وإطلاق قذائف مدفعية، ما جعل الناس تخرج من المنازل باتجاه المواقع التي حددتها لهم الطائرة، إلى أن وصلت لتجمع كبير من دبابات وآليات وجنود الاحتلال قرب المستشفى الإندونيسي، وهناك طلب جنود جيش الاحتلال من أبو صلاح التي كانت تحمل طفلا رضيعا ويرافقها طفلان بعمر أربعة سنوات وشقيقته الأكبر بعمر سبع سنوات النزول في حفرة عميقة تتسع لنحو 500 شخص وبعمق عشرة أمتار، وطلبوا من أمها مواصلة الطريق هي وبقية أبنائها نحو حاجز التفيش قرب الإدارة المدنية.
تعرضت الأم وبناتها للإهانة من قبل جنود جيش الاحتلال الذين نعتوهم بألفاظ بذيئة، وطلبت المجندات في الحاجز منهن كشف الحجاب حتى منتصف الرأس بذريعة متطلبات الفحص الأمني، وهو ما كشفهن أمام جنود جيش الاحتلال، في لحظات عصيبة تمنت فيها الأم "لو أن الأرض انشقت وابتلعتها".
رغما عنهم وبغير إرادتهم أخرج جيش الاحتلال النازحين من منازلهم في شمال قطاع غزة، تحت فوهات الدبابات والقصف والمجازر التي أدت لاستشهاد أكثر من 800 شهيد العشرات منهم لم تقم الطواقم الطبية بانتشالهم من الطرقات، مع نفاد المياه والطعام الأمر الذي أدى لاشتداد المجاعة شمال القطاع.
تروي أبو صلاح لـ "فلسطين أون لاين": "وضعنا في حفرة وطوال تواجدنا فيها الذي استمر لعدة ساعات كان جنود جيش الاحتلال يطلقون الرصاص بمحيط الحفرة بهدف تخويفنا، مما آثار الرعب في نفوس أطفالنا".
تكشف أبو صلاح عن جريمة دموية ارتكبها جنود جيش الاحتلال توارت خلف ادعاء إنساني مزيف، عندما أطلق جنود جيش الاحتلال الرصاص على قدم امرأة، ثم أرسلوا مجندة لإسعافها وكانت العملية مصورة، بهدف إظهار الجانب الإنساني لهم للرأي العام الدولي، وإظهارهم كأنهم حريصون على حياة النازحين.
في رحلة عذاب مرت بها العائلة فوق الدمار والركام وجثث الشهداء، استمرت لنحو عشر ساعات وشاهدت دمارا يشابه "دمار قنبلة نووية" على حد وصفها، بحيث لم تبقَ عمارة سكنية تقف على أعمدتها، في شوارع وأراض وبنية زراعية مجرفة أصبحت كصحراء قاحلة، تخلو من أي معالم حياة، وصلت العائلة مدينة غزة عبر شارع صلاح الدين عصر اليوم، لتعيش رحلة تشرد أخرى بعيدا عن منزلهم في مراكز إيواء مكتظة لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة.
تشبث بالحياة
ورغم محاولات التهجير القسري لعدة الآلاف من شمال القطاع، إلا أن عشرات الآلاف لا زالوا يتشبثون بشمال القطاع ونزحوا إلى بلدتي مشروع بيت لاهيا وبيت حانون، كان أبو خالد أحد هؤلاء المحاصرين، فبعدما استطاع إخراج زوجته التي وضعت توأم قبل اجتياح الاحتلال لمخيم جباليا بيومين، مع أطفاله الثلاثة ووالدته وأخوته إلى منطقة غرب غزة، عاد ليتفقد منزله بعدها بيوم، لكنه تحاصر وعاش أكثر من عشرين يوما مشردا بعيدا عن عائلته وبيته.
توجه أبو خالد لمستشفى اليمن السعيد، معتقدًا أن المشفى في مأمن عن نيران جيش الاحتلال ولم يدرِ أنه سيكون هدفا لواحدة من الجرائم البشعة عندما قصفت طائرات الاحتلال ساحة المشفى واستشهد خلالها 17 مواطنا غالبيتهم من الأطفال والنازحين الذين لجأوا للمشفى، وفي شاهدة أخرى نجى من الموت المحقق عندما سقط صاروخ أمام المشفى أثناء تواجده على مدخله لكنه لم ينفجر.
يقول أبو خالد لموقع "فلسطين أون لاين": "توجهت لمشروع بيت لاهيا، وهناك زاد القصف وتفجير المنازل بواسطة آليات مفخخة، فتوجهت مع أعداد كبيرة من المواطنين نحو بلدة بيت حانون، خلال طريق النزوح رأيت الكلاب تنهش جثة شهيد، ذهبت إلى بيت حانون ولا زلت أخشى أن يأتي الدور عليها ويتم محاصرتنا فيها".
مع نفاد الطعام والمياه، بالكاد يستطيع أبو خالد تناول وجبة واحدة باليوم، يتكئ فيها على عكاز الصبر إلى "حين انفراج هذه الغمة" ويعود ليلتقي مع عائلته، وزوجته التي هي في حاجة ماسة إليه، وكما يعاني من الطعام يعيش في برد شديد مع ساعات الليل مع عدم توفر له ملابس شتوية وأغطية.