فلسطين أون لاين

"شهادة مؤلمة من مُعتقلات الموت"

المُحرّر "السر" ..عندما أصبح العملُ الطّبي "تُهمة" عقابها "اعتقال قاسٍ"

...
خانيونس / فاطمة حمدان

لم يدر بخلد أخصائي الجراحة العامة في مجمّع ناصر الطّبي الطبيب خالد عبد الكريم السر يومًا أن يكون عمله الطبي سبباً لاعتقاله من قبل قوات الاحتلال "الإسرائيلي" وتعريضه للتعذيب، ليقضي وقتاً صعباً وطويلاً ظنّ من ثقله أنه قد لا ينتهي، لكن مشيئة الله حملت له إفراجاً غير متوقع ليخرج حاملاً همّ الأسرى الذين قاسمهم المعاناة وتركهم خلفه ينتظرون لحظة "الفرج".

حصارُ وتحقيق

الطبيب السر حوصر في الثلاثين من مارس من العام الحالي في مشفى ناصر" حيث يعمل" إثر اجتياح مفاجئ لقوات الاحتلال لمنطقة غرب خانيونس للمرة الثانية خلال الحرب الحالية، يقول :"حوصرنا داخل المستشفى لمدة ثلاثة أيام من جميع الجهات، كنا قرابة خمسة وعشرين شخصًا من الكوادر الطبية وعدد قليل من المرضى،  وقرابة تسعين من النازحين، كان المستشفى خارج الخدمة وقتها وكنا نحاول إعادة تأهيله وتنظيفه وتخليصه من آثار الاقتحام الأول له في فبراير من العام نفسه.

ويضيف:" نقلونا لغرفة تحقيق ميداني في مبنى مجاور للمستشفى لخمسة أيام، ثم نقلوني وعدد من الأسرى بجيب عسكري إلى معسكرات الاعتقال، وخلال النقل تعرضتُّ للكثير من الضرب الجسدي المهين وكسور في القفص الصدري وما زالت اثار المرابط البلاستيكية التي قيدت بها أيدينا وأرجلنا حينها موجودة حيث نعاني من ضعف في الأعصاب في هذه المناطق، كنا كلما نتألم يضربوننا أكثر".

وكانت المحطة الأولى لـ"السر" هي "سجن سديه تيمان" سيء الصيت، يقول:" السجن كان  عبارة عن أربعة اقسام أقدمها قسم أ، وهو عبارة عن بركس من الأسبست، متهالك تملأه الجرذان والحشرات وبرك المياه الراكدة".

ويتابع "التعذيب كان نفسيًا وجسديًا فيطلب منك جنود الاحتلال مثلًا ان تظل جالسا على الأرض لمدة ثمانية عشرة ساعة متواصلة وأنت مكبّل بالأصفاد المعدنية وعيونك معصوبة".

ويمضي بالقول:" ممنوع الجلوس بشكل مريح أو التحرك أو الحديث مع الآخرين وإلا تعرضت للإهانة اللفظية او الضرب أو الوقوف على ركبتيك لمدة ساعتين، أو أخذك للخارج والاعتداء عليك بالهراوات، أو دخول فرق القمع بالهراوات والكلاب التي تتبول على المساجين أو رش غاز الفلفل على الوجوه أو ضرب الأسرى في الأماكن الحساسة فهو مقر للإهانة والإذلال".

ويشير السر إلى أن الاسئلة التي كان يوجهها له المحققون  تتعلق بعمله في المشفى وهل تعامل مع أسرى "إسرائيليين" أثناء الحرب، وعمله منذ بداية الحرب داخل المشفى و الأماكن الموجودة فيه.

كانت عقارب الساعة داخل المعتقل، وكأنها لا تتحرك، يقول السر:" كان الوقت  يمر علينا طويلًا كنا نعده بالدقائق، فقد كان الضغط الجسدي كبيرًا علينا طوال الوقت، فكنا نعاني من آلام في الظهر والأرجل من قسوة العقوبات أو الجلوس الطويل على الأرضية الصلبة".

ويكمل "التعامل مع المعتقلين في سجون الاحتلال غير آدمي، " للأسف أنت في السجن غير مسموح لك أن تعرف مصيرك ما الخطوة التالية بحقك، أين يتم نقلك أو أين يذهبون بك، وتتعرض للإذلال النفسي والمعنوي أكثر من الجسدي، فيتم التعامل معك ككائن من الدرجة العاشرة من خلال الحقد الشديد الذي كنا نلمسه في تعامل جنود الاحتلال معنا داخل السجن".

وكانت النقطة الفارقة في حياة السجن، هي الضجة الإعلامية التي أثيرت حول معتقل "سديه تيمان" في شهر يونيو الفائت بسبب فظائع التعذيب واستشهاد عدد من الأسرى فيه، فحدث تغيير على الوضع بنقل أغلب المعتقلين فيه والإبقاء فقط على بعض الأسرى  من المرضى مبتوري الأطراف  ومن تم اعتقالهم  بعد هذا التاريخ كسائقي الشاحنات عبر كرم ابو سالم أو محور نتساريم فيتم اعتقالهم لمدة أسبوع فيه ثم ترحيلهم لـ"معسكر عوفر"".

النقل لـ"عوفر"

ويقول السّر: "المعاملة في معسكر "عوفر" التابع لجيش الاحتلال كانت أخف وطأة، "كنا نتعرض للضرب لكن بوتيرة أقل بكثير من التي كانت تتم في "سديه تيمان"،  وكانوا يتذرعون بأي ذريعة للضرب كأن يضحك الأسير أو يتكلم أو يتحرك "وقت العد""..

 ويتم التعامل مع أسرى غزة جميعا على أنهم "مقاتلين غير شرعيين" وهذا يعني أن غالبية الموجودين في السجن ليس لديهم أي تهم فقد يكونون فقط موظفين حكوميين مدنيين أو كانوا في مكان اجتاحه الاحتلال فتم اعتقاله بتهمة مخالفة أوامر الجيش فيتم اعتقالهم احترازيًا وبشكل تعسفي حتى إشعار آخر لعدم وجود لائحة اتهام يمكن محاكمته على أساسها.

وينبه الطبيب السر إلى أن معسكر عوفر يختلف عن سجن عوفر فالسجن يتبع لمصلحة السجون أما المعسكر فهو تدريبي تابع لجيش الاحتلال فيه مركز للمخابرات،  ومركز تدريب للجيش "فكنا نسمع إطلاق نار وأصوات تدريبات ومناورات عسكرية ".

ويضيف ""المعسكر" فيه أربعة أٌقسام، "كنتُ في القسم "أ" الذي فيه 23 غرفة لمبيت الجيش أثناء التدريب، أما الاقسام المستحدثة ب و ج و د فيسمونها سجن بنيامين، " في بداية اعتقالي في شهر مارس كان هناك اجتياحان بريان لـمجمع "الشفاء الطبي" و"حمد"، كان هناك قرابة ألف أسير، فتم نقل غالبية المعتقلين من " سديه تيمان" لـ"معسكرعوفر" وسجن "النقب"".

ويكمل السر:" تم نقلي لمعسكر "عوفر" في شهر يونيو وأغلب المعتقلين معي كانوا من الشفاء وحمد ثم تم نقلنا لسجون أخرى كانوا ينقلونا بالباصات تقريباً كل يوم خمسين أسيرًا".

ويلفت إلى أن في معسكر عوفر كان في كل غرفة يتواجد اثنا عشر اسيرًا تقريبًا ولكل غرفة حمام ودش يتم التحكم فيه من قبل الجنود فلا يعمل إلا في يوم واحد أسبوعيًا، وفي الأقسام الأخرى ب . ج .د كانوا يضعون عشرين أسيرًا في كل غرفة والدش خارج الغرف وهناك مسافة من نصف متر لمتر بين كل غرفتين.

ويقول: "بعد نقل أسرى غزة من سيه تيمان لعوفر وضعوا في كل غرفة كاميرتان للمراقبة،  وقرروا أن تكون الفورة مرة في الأسبوع  ويتابعون الكاميرات بشكل حثيث ومنعوا التواصل بين الغرف الذي كان يتم من خلال الشبابيك وإلا يتم معاقبتتا فأصبحنا معزولين عن العالم".

ويضيف:" في "سديه تيمان" وفي عوفر كنا في عزلة تامة عن العالم لا نعرف شيء مما يدور حولنا أو في غزة أو أي خبر عن عائلاتنا".

وينوه السر إلى أنه عندما يتم نقل الأسرى من قسم لقسم أو المحامى أو المحكمة يتم تعصيب الأعين  ووضع القيود في أيدي الأسرى طوال اليوم ما عدا غرفة واحدة كنت أنا فيها غير مقيد، كان الجنود يوقظوننا منذ الفجر للعد ثم يسحبوا منا الفرشات والبطانيات ووضعها في جانب الغرفة طوال اليوم وممنوع استخدامها فيظل الأسرى جالسين على الأرض وبعض الضباط كان يأمروننا بأن نتناول الطعام أيضًا على الأرض ، وكان هذا الأمر من أصعب الأمور علينا قصر فترة النوم التي لا تتجاوز الخمس ساعات يوميًا".

ورغم قسوة السجن، إلا أن الأسرى كانوا يقضون الوقت بتجاذب أطراف الحديث والصلاة والنشيد والمديح النبوي" فمعنويات الأسرى عالية، كانوا يخففون عن بعضهم البعض برغم منغصات السجانين الذين كانوا يتفننون في عقابنا خاصة إذا لمحوا اخد الشباب يضحك أو يقوم بنشاط يطلبون منا أن نتفرق وإلا يعاقبون الغرفة بأكملها".

ويتابع:" بالنسبة للأكل ثلاث وجبات بكميات قليلة، وهو في أوقات محددة ممنوع أن تتناوله في وقت آخر. حتى أنهم سحبوا منا الطعام في أحد الأيام ونحن صائمون قبل الاإطار بعشر دقائق".

 ويستذكر الطبيب السر "أسوأ شيء في السجون هو الإهمال الطبي فلا يأتون بطبيب في حالة المرض حيث يطلب الضابط من الأسرى ألا يطلب أحد منهم العلاج إلاا إذا كان على حافة الموت" فأحد الاخوة ظهر له دمل وظل يعاني عدة أيام دون أن يقدموا له العلاج".

ويشرح بالقول:" في شهر يوليو الفائت أصبنا بالجرب وتركونا نعاني من الحكة والألم دون أن يعالجونا"، متابعا: "قد ظللت لمدة شهر كامل أعاني من آلام في المعدة وأطلب منهم حبوب فلم يعطوني حتى أصبت بنزيف ونقلوني للمستشفى".

أما التفتيش فيكون في صورة قمعية فكل أسبوع يمر الجنود مرة أو مرتين تختار وحدة القمع غرفة أو غرفتين في القسم فيأمرون الأسرى بالانبطاح على بطونهم مع وضع أيديهم على رؤؤسهم ويقومون بتفتيش كل خمسة أسرى دفعة واحدة،مع تعنيفهم وضربهم ونقلهم للعزل حتى تفرغ الغرفة من الأسرى فيقومون بتفتيتشها بشكل دقيق البحث عن ممنوعات كأكواب البلاستيك التي كنا نستعملها في النظافة الشخصية في الحمام ومنعوها مؤخراً، كما يتم الاغتصاب بالعصي وبعض الأدوات الكهربائية.

وقد أصيب السر باليأس من أن يتم الإفراج عنه حيث وجّه له تهم مخالفة أوامر جيش الاحتلال والانتماء "لتنظيم إرهابي"، تلك التّهم التي وجهت لكل الأسرى من غزة، ما جعل الإفراج عنه أمرًا مفاجئًا جدا له.