أحدثت معركة طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023) قفزة نوعية إستراتيجية غير مسبوقة في مسار القضية الفلسطينية وطبيعة المواجهة مع الاحتلال الصهيوني، جاءت هذه المعركة ضمن سلسلة طويلة من المقاومة والجهاد المستمر لأهل فلسطين المحتلة منذ أكثر من 75 عاماً، بدأ الهجوم المباغت لكتائب القسام على مستوطنات غلاف غزة والذي وُصف بأنه هجوم غير مسبوق من حيث حجمه وتوقيته بالإضافة لأنه كان هجوم غير تقليدي ومُفاجئ من حيث التخطيط والتنفيذ، مستغلةً بعض الثغرات الأمنية للشريط الحدودي الشرقي لقطاع غزة، أسفر هذا الهجوم (عبر البر والبحر والجو باستخدام طائرات شراعية) على سيطرة مُقاتلي حماس على عدد من المستوطنات ولعدة ساعات، نتج عنه مقتل ما لا يقل عن 1400 صهيوني، ومئات الجرحى، بالإضافة لتمكن مُقاتلي حماس من أسر عدد من الجنود الصهاينة والذي يُقدر 200-250 شخصاً حسب تصريح لأبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام.
قطاع غزة الذي يُعاني من حصار خانق منذ عام 2007م، وخلال الـ 16 عاماً من الحصار تعرضت غزة لـ 6 حروب شرسة، كانت بدايتها بـ حرب الفرقان (2008-2009)، ثم حرب حجارة السجيل (2012)، ثم حرب العصف المأكول (2014)، ثم صيحة الفجر (2019)، ثم سيف القدس (2021)، ثم وحدة الساحات (2022)، هذه الحروب العديدة التي خاضتها غزة، وخلفت آلاف الشهداء والجرحى والدمار الهائل لآلاف المباني السكنية والمرافق والمنشئات الاقتصادية والتعليمية والبنية التحتية، حيث تأثرت المؤسسات التعليمية والصحية بشكل كبير عبر تدمير المدارس والجامعات والمستشفيات والبنية التحتية نتيجة القصف المتكرر في كل حرب، بالإضافة لارتفاع معدلات البطالة وانهيار الاقتصاد المحلي، هذا كله ترك آثاراً عميقة على حياة أهل غزة وفاقم الأوضاع المعيشية وزاد معاناتهم في بناء مستقبل آمن ومُستقر، فجاءت هذه المعركة ضمن حلقات الجهاد والمقاومة من أجل تحرير فلسطين واستعادة الحقوق، كما شكلت واحدة من أكبر المواجهات العسكرية التي شهدتها المنطقة مُُؤخراً، والتي ستترك تداعيات طويلة الأمد وعلى عدة مستويات في مسار المواجهة الفلسطينية والصهيونية والاستقرار الإقليمي.
الإخفاق العسكري في منع الهجوم المفاجئ الذي شنته كتائب القسام على مستوطنات "غلاف غزة" كان سبقه إخفاق وفشل استخباراتي في رصد الهجوم مُسبقاً، ويُعد هذا الإخفاق أحد أكبر التحديات الأمنية التي واجهتها ما يُسمى بـ "إسرائيل" منذ عقود، مما أثار تساؤلات حول جهوزية الاستخبارات الصهيونية، فهذا الهجوم الذي يتطلب تحضيرات لوجستية وتنسيق على مستوى عالٍ من الإعداد والتخطيط والتنفيذ، إلا أن الاستخبارات الصهيونية وقفت عاجزة عن التنبؤ به، مما أحدث صدمة داخل المؤسسة الأمنية و"إسرائيل" ككل.
عقب ذلك تصعيد جنوني غير مسبوق على قطاع غزة من قبل "إسرائيل"، حيث شنت ضربات جوية مُكثفة استهدفت البنية التحتية العسكرية للمقاومة، بالإضافة إلى أن الهجمات شملت مناطق مدنية من مستشفيات وجامعات ومدارس ومساجد ومربعات سكنية بالكامل، تسبب في دمار كبير وخسائر بشرية هائلة.
ومع تصاعد المواجهات تدخلت قوى إقليمية من لبنان واليمن والعراق وجماعات مدعومة من إيران بعمليات إسناد لغزة ومشاركة ميدانية محدودة، تمثلت في فتح حزب الله جبهة شمالية، وهي التي تمتلك ترسانة ضخمة من الصواريخ بعيدة المدى تجعل المناطق الشمالية لفلسطين المحتلة في مرمى الصواريخ، ومن ناحية اليمن التي أعلنت دعمها لغزة في معركة طوفان الأقصى ودخلت على خط المواجهة منذ الأسبوع الأول من خلال تنفيذ عدة هجمات باستخدام صواريخ باليستية وطائرات مسيرة باتجاه، والتي كانت بصفة متقطعة وغير متواصلة، إلا أنها فرضت على "إسرائيل" تخصيص موارد إضافية للدفاع عن الجبهة الجنوبية، وهذا بدوره شتت جهودها العسكرية، كما أن تحالف المحور الإيراني كان الداعم الرئيسي لكل من حماس في غزة، والحوثي في اليمن، وحزب الله في لبنان، وجماعات في العراق، في مواجهة "إسرائيل"، وهذا بدوره عزز موقف حماس من المواجهة، وأعطاها دفعة معنوية وشجعها على مواصلة الهجوم.
وبعد اعتداء "إسرائيل" على قيادة حزب الله، وخاصة بعد اغتيال الأمين العام للحزب "حسن نصر الله" زادت الأوضاع الإقليمية والدولية تعقيداً، والذي تلاه هجوم إيراني بالصواريخ على مواقع استراتيجية في الكيان الصهيوني، منها مقر الموساد وقاعدة حتسريم المسئولة عن اغتيال "نصر الله"، وقاعدة نيفاتيم، وأجهزة الرادار في الأنظمة الدفاعية.
وقد يجذب تصاعد المواجهات وتسارع الأحداث بين حزب الله و"إسرائيل" إلى تدخلات دولية أكبر لحماية مصالحها واحتواء الصراع، مما قد يُوسع نطاق المعركة ويجعلها أكثر تعقيداً، يُحولها إلى حرب إقليمية، هذا كله لا ينفي أن الانتكاسة الكبيرة التي تعرضت لها "إسرائيل" في 7 أكتوبر المجيد سيظل وصمة عار في تاريخ الجيش الذي لا يُقهر، وستبقى المشاهد كوابيس تقض مضاجعهم، وحكايات عزّ يرويها أهل غزة عن يوم أن تهاوى بيت العنكبوت.
من جهة أخرى أثرت معركة طوفان الأقصى بشكل كبير على الرأي العام العالمي، فقد تصاعدت الاحتجاجات والمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في العديد من الدول، مع فجوة واضحة في أصوات الدول التي دعمت "إسرائيل"، وهذا بدوره كان له تداعيات سياسية عميقة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وكانت النقطة الأهم أن معركة طوفان الأقصى قد أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية، وعرقلت عملية التطبيع بين "إسرائيل" وبعض الدول العربية، وأعادت النظر في مستقبل اتفاقيات التطبيع بينهم.
أما على مستوى السياسة الداخلية في "إسرائيل" فقد أدى الإخفاق في توقع هجوم 7 أكتوبر إلى انتقادات واسعة للحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو وأجهزتها الأمنية، وشكّل ضربة قوية لسمعة الحكومة، وساعد على زيادة الانقسامات الداخلية للمجتمع الصهيوني، حيث شعر العديد منهم بأن الحكومة أخفقت في حمايتهم.
ومن جهة أخرى كان لمعركة طوفان الأقصى تداعيات اقتصادية كبيرة وعلى عدة مستويات، بالإضافة لتأثيرها على الأسواق العالمية، فعلى مستوى الاقتصاد الفلسطيني، تسببت الهجمات الصهيونية في تدمير واسع للبنية التحتية والمباني السكنية والمستشفيات وشبكات الكهرباء والمياه، كما أدت لتوقف شبه كامل للأنشطة التجارية والصناعية في غزة مما زاد من معدلات الفقر والبطالة في قطاع غزة، هذا كله سيؤدي إلى أن الاقتصاد الفلسطيني سيعتمد بشكل كبير في المرحلة المقبلة على المساعدات الدولية، مما سيثقل كاهل المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، وهي تُمثل خسائر طبيعية لمن يخوض معركة كبرى من أجل تحرير وطنه، حيث تجاوزت الخسائر الأولية المباشرة لحرب الإبادة الجماعية الـ 35 مليار دولار.
أما على مستوى الاقتصاد الصهيوني فقد أدت العمليات العسكرية المتواصلة، ونشر القوات، وتشغيل الأنظمة الدفاعية إلى فرض تكاليف كبيرة على "إسرائيل"، كما أن الهجمات الصاروخية سواء من غزة أو من جنوب لبنان أدت إلى تعطيل واسع للحياة الاقتصادية في المناطق المتضررة، وتأثرت القطاعات الحيوية، مثل السياحة والنقل، مما أدى لخسائر في الإنتاج والدخل.
وعلى المستوى العالمي فإن زيادة التوترات الجيوسياسية أثرت على الاقتصاد العالمي بشكل غير مباشر، وخاصة حركة الملاحة العالمية في البحر الأحمر الذي تمر به قُرابة 20% من تجارة النفط العالمية، و12% من التجارة الدولية، والذي تفرض عليه جماعة الحوثي سيطرة تمنع مرور السفن الصهيونية، وقد ذهبت بعض التقديرات إلى أن 70% من التجارة العالمية التي تمر عبر هذا المضيق غيرت مسارها، وهذا بدوره أدى لارتفاع تكاليف الشحن وساهم في استمرار موجة التضخم العالمية.
أما على المستوى الإنساني فقد كانت للهجمات الشرسة التي نفذها الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة تداعيات خطيرة تركت آثاراً عميقة على المدنيين في جميع جوانب الحياة، فالقصف العنيف باستخدام صواريخ شديدة الفتك والانفجار أدت لارتقاء شهداء من المدنيين أغلبهم من النساء والأطفال بالإضافة لآلاف الإصابات الخطيرة أدت لبتر في الأطراف، على سبيل المثال.. قنبلة (MK-84) والتي يُطلق عليها "المطرقة" والتي تزن (2000 رطل) تُلحق ضرر شديد إثر انفجارها، والمُرجح أنّ هذه القنبلة هي المستخدمة في مجزرة مستشفى المعمداني التي راح ضحيتها أكثر من 470 شهيداً، وبعد مرور عام من العدوان ارتقى 41870 شهيد ممن وصلوا للمستشفيات، وأكثر من 10 آلاف شهيد ومفقود ما زالوا تحت الأنقاض، وأكثر من 97 ألف إصابة، واختطاف أكثر من 5 آلاف أسير تم اعتقالهم، بعضهم استشهد تحت التعذيب، هذه الأرقام حسب الإعلام الحكومي في غزة، والذي رصد أيضاً 3654 مجزرة ارتكبها جيش الاحتلال، و16927 شهيداً من الأطفال، و171 طفلاً رضيعاً وُلدوا واستشهدوا في حرب الإبادة الجماعية، و902 عائلة فلسطينية قتل الاحتلال جميع أفرادها ومسحها من السجل المدني، و36 طفلاً استشهدوا نتيجة المجاعة، و11487 شهيدة من النساء، وأن نسبة الدمار في قطاع غزة تجاوزت 86%.
كما أن الاجتياحات البرية والقصف الجوي المستمر أدى لنزوح آلاف الفلسطينيين من منازلهم بحثاً عن الأمان، وفي الغالب ما يجدون أنفسهم بلا مأوى في ظل ظروف إنسانية قاسية، كما أن الكثير منهم تعرض للقصف في أماكن النزوح التي أعلن عنها الاحتلال في أوقات سابقة أنها مناطق آمنة، مما خلف عشرات الشهداء دفنوا في خيامهم التي اختفت معالمها من شدة الانفجارات، وهذا ما حدث في مجزرة مواصي خان يونس التي كانت تأوي أكثر من 80 ألف نازحٍ راح ضحيتها حسب ما ورد عن وزارة الصحة 79 شهيدا، كما أن الحصار المفروض على قطاع غزة وإغلاق المعابر أدى لتعطيل إمدادات المواد الغذائية والمياه، وانقطاع التيار الكهربائي نتيجة تدمير محطات الكهرباء منذ الأسبوع الأول من حرب الإبادة، ونقص المياه النظيفة، أدى لانتشار الأمراض الجلدية، مما زاد من معاناة الأهالي وتدهور الظروف الصحية، ناهيك عن الأزمات النفسية نتيجة القصف المتواصل والقتل والدمار وفقد الأحبة وخاصة عند الأطفال.
بشكل عام.. رغم الآثار الكبيرة التي تركتها معركة طوفان الأقصى على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والإنسانية وكل جوانب الحياة، والتي من المتوقع أن تستمر تداعياتها لفترات طويلة، إلا أنها مثلت أعظم حالة ثورية وجهادية لشعب أعزل عانى من حصار على مدار أكثر من 16 عاماً، والذي لم يمنعه من أن يقوم فتيانه وشبابه بسحل جنودهم المُدججين بالسلاح من داخل الدبابات والمدرعات، في مشهد هز هيبة الجيش الذي يقولون أنه لا يُقهر، كما أنها أول مواجهة يتعرض لها الاحتلال الصهيوني في عقر كيانه منذ احتلال فلسطين في عام 1948م، هو يوم أعاد للأمة العربية والإسلامية هيبتها وكرمتها، فالمطلوب من الأمة اليوم أن تكون على قدر مسؤولياتها، فمعركة كبرى بوصلتها تحرير المقدسات والبلاد ومُواجهة المشروع الصهيوني الذي يستهدف المنطقة والأمة، يجب أن تكون الاستجابة والإعداد والتجهيز على مستوى المشروع، والاعداد لتحالف عسكري وسياسي وأمني وإغاثي، وكل فرد قادر عاقل بالغ في الأمة يجب أن يقف عند مسؤولياته وواجباته.