في إحدى زوايا مخيم النزوح في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تجلس "أم علي" وعيناها شاردتان، وجسدها النحيل بالكاد يقوى على مواجهة معاناة العيش في خيمتها التي باتت الآن ملجأها وملاذ طفليها.
قبل ثلاث سنوات، كانت أم علي (٤٢ عامًا) تعيش حياة بسيطة مع زوجها وطفليها في غزة.
كانت تلك الحياة مليئة بالتحديات، لكنها كانت تجد قوتها في زوجها، الذي كان سندها ودعمها، إلا أن حادث السير المفاجئ الذي أودى بحياته مزّق استقرارها، ليدخلها في دوامة من الحزن العميق.
منذ تلك اللحظة، بدأت أم علي تفقد السيطرة على مشاعرها، نوبات البكاء غير المبررة، والصمت الطويل الذي يبتلعها، كل ذلك كان بداية لرحلة من الألم النفسي الذي كان ينهشها ببطء.
الأطفال لم يعودوا يفهمون أمهم، علي ابنها الأكبر، في السادسة عشرة من عمره، كان يشاهدها تتكسر أمامه يومًا بعد يوم، يراقب عينيها الجافتين اللتين لم تعودا تنظران إليه كما كانتا تفعل في السابق.
لم يعد علي يسمع منها إلا همهمات غريبة، وكلمات متقطعة لا يفهمها، سارة الطفلة الأصغر، لا تزال في الرابعة من عمرها، تسحب أمها من طرف عباءتها بين الحين والآخر، تطلب منها اللعب أو إعداد الطعام، لكنها تلتقي بوجه خالٍ من أي ردة فعل.
مع اندلاع الحرب، تفاقمت حالة أم علي، خاصة مع انعدام توفر الأدوية النفسية في قطاع غزة، والنزوح المتكرر من مكان إلى آخر والذي أنهكها أكثر، في كل مرة كانت تغادر منزلًا وتستقر في خيمة جديدة، كانت تفقد جزءًا آخر من روحها.
الحرب لم تكتفِ بأخذ الأمان، بل حرمتها من الأدوية التي كانت تعتمد عليها لتخفيف حدة معاناتها النفسية، لم تعد تجد العلاج الذي يبقيها متماسكة، ما جعل حالتها تتدهور بوتيرة أسرع.
الخيمة الصغيرة التي تحيط بها أكياس الرمل والأغطية المهترئة أصبحت الآن عالم أم علي وأطفالها.
في الداخل، يكسو الصمت المكان، الأطفال الآن باتوا يعيشون في خوف دائم، ليس فقط من الحرب والقصف، بل من فكرة فقدان أمهم تمامًا.
تيه وضياع
ونزح عمر شاكر من مدينة غزة إلى مخيم دير البلح وسط قطاع غزة، واضطر إلى تعليق منشورات تحمل صورة شقيقه جبر، الذي يعاني إعاقة عقلية، على أبواب المحال التجارية والصيدليات وفي الأسواق، طالبًا من الناس التواصل معه في حال عثروا عليه.
جبر كان نزيلًا دائمًا في مستشفى الأمراض النفسية بمدينة غزة نتيجة تطور حالته لدرجة إلحاق الأذى بالآخرين دون وعي منه. لكن مع اندلاع الحرب، قامت إدارة المستشفى بتسليم جميع المرضى لعائلاتهم.
يقول شاكر لـ"فلسطين أون لاين": "للسيطرة على حالة شقيقي، يحتاج إلى تناول ثلاثة أنواع من المهدئات ومضادات الذهان، لكن هذه الأدوية لم تعد متوفرة".
وأضاف: "قبل نحو شهرين، استيقظنا ولم نجده معنا. غادر المنزل ولم يعد، ومنذ ذلك الحين ونحن نبحث عنه لأنه قد يؤذي نفسه أو الآخرين دون وعي".
الحرب الدموية التي تشنها دولة الاحتلال تسببت في تصاعد الضغوط النفسية، خاصة على النازحين الذين فقدوا أحباءهم ومنازلهم وأعمالهم، وقد أدى ذلك إلى ازدياد حالات الموت المفاجئ، والتي يعزوها الأطباء إلى النوبات القلبية أو السكتات الدماغية المفاجئة.
تداعيات نفسية واجتماعية
د. هشام المدلل، مدير دائرة التخطيط وتطوير الصحة النفسية بوزارة الصحة في غزة، أكد أن الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزة أحدثت آثارًا كارثية على المرضى النفسيين، وزادت من الضغوط النفسية على جميع السكان.
وأوضح المدلل خلال حديثه مع "فلسطين أون لاين" أن الخدمات النفسية توقفت تمامًا بعد قصف المستشفى الوحيد المخصص للصحة النفسية، الذي كان يخدم نحو 3600 مريض، كما أدت الحرب إلى إغلاق ستة مراكز للصحة النفسية التي كانت تقدم خدماتها لنحو 30 ألف مريض، ما زاد من تفاقم الأزمة.
وأشار إلى أن الأطباء النفسيين يقدمون خدماتهم في ظروف صعبة، مع نقص حاد في الأدوية النفسية، ما تسبب في انتكاسات صحية لدى المرضى، إذ أُوقف علاج حوالي ألفي مريض من ذوي الفصام المستعصي.
ولفت المدلل النظر إلى وجود نقص كبير في الأدوية الأساسية، مثل مضادات الاكتئاب ومضادات الذهان ومضادات القلق، بسبب رفض قوات الاحتلال إدخال هذه الأدوية إلى القطاع.
وحذّر من العواقب الوخيمة لنقص الأدوية على المرضى وعائلاتهم، حيث يتزايد خطرهم، وقد يُلحقون الأذى بأنفسهم أو بالآخرين، ودعا المجتمع الدولي إلى التدخل العاجل لتوفير الأدوية اللازمة للمرضى النفسيين وترميم البنية التحتية الصحية.
إياد الشوربجي، الخبير النفسي والاجتماعي في غزة، أكد أن المرضى النفسيين يعانون تدهورًا ملحوظًا في حالاتهم خلال الحرب، حيث تزداد اضطرابات القلق والاكتئاب.
وقال الشوربجي لـ"فلسطين أون لاين": إن الحرب تدفع الكثيرين إلى البقاء في منازلهم، ما يزيد من مشاعر العزلة، خاصة بالنسبة للمرضى الذين يعتمدون على الدعم الاجتماعي.
وأضاف: "حتى المرضى الذين كانوا في حالة استقرار نفسي قد يتعرضون لانتكاسات بسبب الصدمات المتكررة، مثل فقدان أفراد من الأسرة أو التعرض للعنف، كما يعاني المرضى نقصًا في الأطباء النفسيين وبرامج الدعم المجتمعي التي يمكن أن تخفف من الضغوط النفسية".