يستيقظ الأطفال داخل مراكز الإيواء على صوته وإطلالته، يعيد بذاكرتهم للوراء حينما كانوا يجلسون على مقاعدهم وبداخل مدارسهما، يعيد لهم جزءً بسيطًا مما أفقدتهم إياه الحرب، يحاول إحياء العملية التعليمة والمحافظة على استمرارها بإطلاق مبادرته "مستمرون بالعلم والتعليم"، يمد طوق النجاة لعقول الأطفال قبل الغرق في وحل الجهل الذي وضعتهم فيه الحرب والاحتلال.
مع كل صباح، يقف المعلم محمد الخضري أمام الطلاب بكل نشاط يسترجع ذكرياته هو أيضًا وأياما سرقتها الحرب منه، أو يجلس على أرضية المراكز التي تخلو من المقاعد، يستخدم القراءة وكافة أساليب التفريغ النفسي بأسلوب جذب طلاب المخيمات إليه وحببهم بما يقدمه وأعادهم لمقاعد الدراسة بعدما أبعدتهم الحرب عنها، فيخلط برنامجه التعليمي بأساليب متنوعة من الرسم والرياضية وأساليب تنشيطية منحته لقب "المعلم الملهم".
في 7 نوفمبر، تشرين ثاني 2023 أعلن عن استشهاده أثناء قصف إسرائيلي لبيت نزح إليه بحي الشجاعية شرق مدينة غزة استشهد على إثرها عدد من أقاربه وظل في عداد المفقودين لعدة ساعات تحت ركام المنزل إلى أن أخرج مصابا بجروحه يرفع راية التحدي في وجه الفقد والاحتلال متحاملاً على ألم إصابته.
خرج المعلم محمد معين الخضري من تحت الركام والردم، ليتعافى من إصابته ويكمل مبادرته التعليمة محاولاً تحدي الجهل الذي يزرعه الاحتلال بتعطيل الدراسة ومحاولة خلق جيل جاهل بعيد عن الدراسة لأكثر من عام.
لم يزد عدد الطلاب في أول يوم لإطلاق المبادرة عن 50 طالبا، أطلقها يوم 20 أكتوبر/ تشرين أول 2023، جعل الخضري بيته مساحة لتعليم الطلاب ومراجعة دروسهم لتنمية قدراتهم لا تراجعها، لتستمر الأعداد في ازدياد والمراكز في توسع تجول فيها بين مراكز الإيواء بمحافظة رفح ودير البلح بعد نزوحه من مدينة غزة حتى وصلت الأعداد حاليا إلى 1300 طالب.
التربية، والتعليم، والتنشيط، والترفيه، والتفريغ النفسي، وأنشطة رياضية، هي أساليب تعليمية وضعها الخضري كمنهاج حبب الأطفال بمبادرته وجعلهم يتوافدون عليها وينخرطون فيها.
يقول الخضري إن "الثروة الحقيقة التي يمكن توريثها للأجيال في المستقبل هي العلم وقراءة الكتب" فإن استطاع الاحتلال هدم البيوت وتدمير البنية التحتية فإنه "لا يستطيع هدم العقول" عندما تتوفر الإرادة والتصميم على ذلك.
ويعمل الخضري في مجال تأسيس اللغة العربية والخط العربي وصعوبات التعلم، وهو معلم حاصل على ماجستير مناهج وطرق التدريس، وصاحب المبادرة التعليمية والترفيهية لأطفال مراكز الإيواء في القطاع (مستمرون بالعلم والتعليم) ويعمل في قسم التعليم المستمر بالجامعة الإسلامية وقسم التدريب بمؤسسة القطان للطفولة، وشارك بالعديد من المؤتمرات العلمية حول التعليم وقت الأزمات، ولديه العديد من المبادرات التربية من أهمها التعليم عبر الإنترنت بجائحة كورونا.
يقول الخضري لموقع "فلسطين أون لاين": إن "المبادرة تأتي في ظل شلل العملية التعليمية في قطاع غزة ومن باب المسؤولية المهنية التي ألقيت علينا في مجال التربية والتعليم كان لزاماً علينا أن تكون لنا بصمة تربوية وتعليمية للأطفال".
الانتماء للوطن
وتحتوي المبادرة في مجال تأسيس اللغة العربية والخط العربي وتستخدم كل أساليب التعلم الحديثة بما يتناسب مع الواقع الصعب الذي يعيشه أبناء قطاع غزة فضلا عن استخدام الدراما والقصص والتعلم بالموسيقى والدمى والحكواتي إلخ من أساليب تعليمية وترفيهية.
للمبادرة قيم كثيرة يغرسها الخضري في قلوب الطلاب، أهمها "قيمة الانتماء للوطن وللعملية التربوية والتعليمية ولها بعداً إبداعياً وملهماً للطلبة بحيث نعمل على محاكاة العملية التعليمية للأطفال بقدر الإمكان من بدايتها إلى نهايتها، وتستهدف الفئة العمرية من الصف الأول حتى الصف السادس الأساسي".
ولا يتوقف الخضري عند إعادة تأهيل الطلاب على المستوى التعليمي بل يعمل على تطوير شخصيتهم على جميع المستويات من حيث المستوى التربوي والتعليمي والنفسي وبناء الشخصية المتميزة للأطفال وتطوير قدراتهم التعليمية في ظل الحرب القائمة عليهم، ومعالجة تراجع القيم التربوية لدى الطلاب ومحو السلوكيات السيئة التي تأثروا بها عبر غرس قيم الدين الحنيف في حياتهم، وتذكيرهم بالقيم الجميلة والأفعال الإيجابية التي تزيد من مخزونهم الأخلاقي داخل أسرتهم ومراكز الإيواء.
تغيير الواقع
ونبعت المبادرة من جهد ذاتي وحب للوطن والعطاء وتقديم كل ما لديه من باب الأمانة العلمية التي ألقيت عليه والتماشي مع وضع الأطفال التعليمي وما يعانونه من تراجع تعليمي وعلى جميع الصعد.
يسعى الخضري للنهوض بالواقعي التعليمي وتشخيص العلاقة بين الحروب وتأثيرها على واقع الأطفال على جميع المستويات وكذلك التعرف على مجموعة من التدخلات التي تقدمها الجهات المعنية في التعليم.
عن مدى عمق تأثير المبادرة على الطلبة والبيئة المدرسية، يوضح أن لها "تأثير مباشر على مستوى الأطفال الشخصي وتطوير قدراتهم وإبداعهم والمشاركة المجتمعية والتفاعل المتبادل ما بين الطالب والمعلم".
حينما يتجول الخضري بين الطلاب ويرى تفاعل الطلاب مع المبادرة وحل الواجبات، وتلك الابتسامة التي انتزعها من رحم الحرب فيعد ذلك انجازا كبيرا ساعد الطلاب على الخروج من أجواء الحرب في الساعات التي يقضونها داخل بيئة تعليمية بعيدا عن القصف والصواريخ وضنك العيش والانغماس بهموم العائلة التي بالعادة ما تشغل الأطفال.
ويرى أن للمبادرة التعليمية أثر جميل على مستوى تجاوب الأطفال واستخدام معهم كل أساليب التعلم المشوقة وهذا انعكس انعكاساً إيجابياً من الأهالي للتعاون مع أولادهم من حيث المتابعة والمراجعة اليومية وقد لاقت المبادرة سعادة القائمين على مركز الإيواء واحتضانهم الفكرة وتوفير كل ما يلزم من لوجستيات أساسية.
ورغم أن الخضري يستطيع إبعاد الطلاب عن أجواء الحرب، لكنه لا يستطيع إبعاد الخوف عنهم، فلا تخلو تلك الحصص التعليمية من صوت الصواريخ التي تذكر الأطفال بواقعهم المؤلم وهي أحد أكثر التحديات التي يعاني منها، فضلا عن شح الإمكانيات على مستوى القرطاسية والمستلزمات المدرسية ومقاعد الدراسة ولكن كان هناك إصرار على مواصلة العملية التعليمية بالرغم من هذه الصعوبات.