فلسطين أون لاين

مقال | عن جرائم الذكاء الاصطناعي "الإسرائيلي" في غزة

...
جرائم الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي في غزة
عامر عبد المنعم

تصاعدت الدعوات في أوروبا وأمريكا في الآونة الأخيرة إلى وضع رقابة وقيود على الذكاء الاصطناعي والسيطرة على البرمجيات الفائقة التي قد تتسبب في كوارث لا يحتملها البشر، وتعددت البيانات والخطابات التي يوقع عليها علماء بارزون وعاملون في مجال تقنيات الذكاء، مطالبين بوقف برامج التطوير والتصدي للأخطار التي تشكلها التكنولوجيا الجديدة.

وسط هذا القلق الدولي اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش الجيش الإسرائيلي باستخدام الذكاء الاصطناعي في تدمير قطاع غزة، وقتل الفلسطينيين بالجملة وانتهاك القانون الإنساني الدولي، وخاصة قوانين الحرب المتعلقة بالتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، وأكدت المنظمة في أحدث تقرير لها أن الاحتلال يستخدم تقنيات ذكية تقوم بشكل خاطئ بتوليد عشرات الآلاف من الأهداف، التي يتم قصفها بروبوتات قاتلة ذاتية التشغيل.

جاء تقرير هيومن رايتس ووتش متزامنا مع توقيع الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي على أول معاهدة دولية لمواجهة أخطار الذكاء الاصطناعي، والسعي لوضع معايير وضوابط للشركات العاملة فيه بما يحفظ حقوق الإنسان، وتقييد الاستخدامات بما لا يحول التكنولوجيا الجديدة إلى تهديد للوجود الإنساني المهدد بالانقراض حسب بعض الرؤى المتشائمة.

وقد سبق أن عبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن قلقه البالغ بشأن استخدام الجيش الإسرائيلي الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف في حربه مع حركة حماس في قطاع غزة، وأكد رفضه ربط “قرارات الحياة والموت بحسابات تجريها الخوارزميات”، وانتقد غوتيريش “حملة القصف التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي كأداة لتحديد الأهداف، ولا سيما في المناطق السكنية المكتظة بالسكان؛ مما أدى إلى ارتفاع مستوى الخسائر في صفوف المدنيين”.

برمجيات ذكية قاتلة

تقرير هيومن رايتس ووتش يؤكد ما ورد في تقارير أخرى تشير إلى أن الجيش الإسرائيلي يستخدم تقنيات المراقبة والذكاء الاصطناعي لتحديد من وما سيهاجمه في غزة ومتى، ويستخدم الهواتف الخلوية في تحديد أماكن الفلسطينيين ورصد حركتهم داخل القطاع. من هذه التقنيات برنامج “جوسبيل” (The Gospel) ووظيفته إعداد قوائم بالمباني والمنشآت التي تجب مهاجمتها وتشمل المدارس والمستشفيات والمقار الحكومية ومراكز الشرطة وحتى الأبراج والبنايات العالية، وبرنامج “لافندر” (Lavender) ووظيفته تصنيف الأشخاص في غزة وانتماءاتهم المحتملة ووضعهم ضمن الأهداف العسكريّة ويعتمد على شرائح الهاتف الجوال ومواقع التواصل ومجموعات الواتس، وبرنامج “أين أبي؟” (Where’s Daddy?) وهو يحدد الوقت والموقع الذي يكون فيه الهدف في البيت الذي يقصف بالقنابل الضخمة التي تمسح البيت بمَن فيه مِن وجه الأرض.

نشرت العديد من الصحف الأمريكية والأوروبية تقارير تفصيلية عن البرمجيات الإسرائيلية التي تمت تغذيتها بالبيانات والمعلومات التي لا تفرق بين العسكري والمدني، وتركوا للذكاء الاصطناعي مهمة توليد الأهداف (عشرات الآلاف) التي يتم قصفها بدون مراجعة بشرية، بواسطة مسيّرات ذكية ومعدات ذاتية التشغيل تقصف الإحداثيات المولدة آليًّا!

بسبب الطبيعة العدوانية للاحتلال والنية في الإبادة فإن طبيعة البيانات التي تمت تغذية آلات الذكاء الاصطناعي بها تستهدف كل شيء في غزة ولا تفرق بين المشتبه في أنهم أعضاء في الفصائل الفلسطينية وعائلاتهم، وبين باقي سكان القطاع، ولا تفرق بين المنشآت العسكرية والمساجد وخيام النازحين، ويكشف حجم التدمير أن الأهداف المولدة من الذكاء الاصطناعي شملت المرافق وخزانات المياه وكل شيء، بهدف القضاء على أسباب الحياة.

من جرائم الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية استخدام أسراب من المسيّرات لمطاردة سكان المدن والأحياء والنازحين لإجبارهم على النزوح والهروب، وإطلاق النار بشكل آلي على كل من يتحرك، وقد وثقت المقاومة الفلسطينية جرائم القصف الإسرائيلي من خلال أفلام الفيديو التي وُجدت في المسيّرات التي تم الاستيلاء عليها، وتكشف برمجة آلات الموت على قتل الفلسطيني في كل الأحوال، ولا تفرق بين رجل وامرأة وطفل!

تقنيات المراقبة واختراق المحيط العربي

لا يخفي الإسرائيليون استخدام الذكاء الاصطناعي في التنكيل بالفلسطينيين قبل طوفان الأقصى، فقد أعلنوا عن تقنية التعرف على الوجه وتغذية الحواسب بأسماء كل الفلسطينيين وصورهم ومعلومات عنهم، ومن أشهر هذه البرامج “الذئب الأزرق” الذي يرصد حركة سكان الضفة على أكثر من ألف حاجز مثبتة عليه كاميرات مرتبطة بقاعدة بيانات تمكن الجنود الإسرائيليين من متابعة حركة الفلسطينيين والقبض على من يضعهم الذكاء الاصطناعي على قوائم المشتبه فيهم.

يتعمد الإسرائيليون الإعلان عن برمجيات المراقبة والتجسس للدعاية، وتحقيق الأرباح من بيعها للخارج خاصة الدول المحيطة، ويفيدهم ذلك في اختراق الدول العربية التي تورطت واشترت حكوماتها بعض هذه البرامج مثل البرنامج الشهير “بيغاسوس” الذي يتجسس على الجوالات، وحققت المخابرات الإسرائيلية اختراقات لا يستهان بها بسبب توسع بعض الحكام في التجسس على المؤيدين للتأكد من الولاء وليس على المعارضين فقط، مما يتسبب في تقديم خدمات مجانية على مدار الساعة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية!

التناقض الأمريكي وعدم المصداقية

على نفس النهج في احتكار التكنولوجيا النووية تسعى الحكومة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون لاحتكار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مع التجاهل المتعمد للجرائم الإسرائيلية في هذا المجال، فبدأت الحكومة الأمريكية تركز على الذكاء الاصطناعي في مؤتمرات أسلحة الدمار الشامل، باعتباره تحديا جديدا يستحق التحرك العاجل، وأصدر الرئيس بايدن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أمرا تنفيذيا لوضع معايير وتدابير تضمن “حقوق الناس وسلامتهم”، وأعلنت كامالا هاريس أكثر من مبادرة لـ”تعزيز الاستخدام الآمن والمسؤول للذكاء الاصطناعي”.

وأصدر البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي “الإعلان السياسي بشأن الاستخدام العسكري المسؤول للذكاء الاصطناعي”، الذي يدعو دول العالم إلى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، وضمان أن “يكون استخدام قدرات الذكاء الاصطناعي العسكرية بشكل مسؤول وقانوني”، ولكن لا أحد في الإدارة الأمريكية يتحدث عن الجرائم المرتكبة في غزة وعدم احترام الاحتلال الإسرائيلي للقانون الإنساني!

التستر الأمريكي على جرائم المشروع الإسرائيلي

يعود التقدم في البرنامج الإسرائيلي للذكاء الاصطناعي إلى الدعم الأمريكي المطلق، والسماح للجيش الإسرائيلي بالحصول على أسرار التقنية الأمريكية، ودعم برامج التعاون مع الجامعات والمعاهد الأمريكية وتوظيف العقول بالولايات المتحدة للتخديم في المشروع الصهيوني؛ لذا كان في مقدمة المطالب في الاعتصامات الطلابية بالجامعات وقف التعاون مع الجيش الإسرائيلي، وسحب الاستثمارات من الشركات المتعاونة مع الاحتلال.

في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا للسيطرة على برامج تطوير الذكاء الاصطناعي في دول العالم، تشارك السلطات الأمريكية التكنولوجيا مع الإسرائيليين وتجرب معهم برامجها وأسلحتها لقمع وإبادة الفلسطينيين، وتسمح لكبرى الشركات الأمريكية التي لها السبق في مجال الذكاء الاصطناعي مثل غوغل ومايكروسوفت وميتا بالتعاون ومشاركة إنجازاتها مع الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر أو من خلال البنتاغون.

غوغل في خدمة الجيش الإسرائيلي!

تعد قضية فصل العشرات من عباقرة غوغل بسبب رفضهم للعقد الذي تم توقيعه بين شركتهم بمشاركة أمازون مع الجيش الاسرائيلي بقيمة 1.2 مليار دولار، المعروف باسم “مشروع نيمبوس” أوضح مثال على دعم الاحتلال بحوسبة سحابية وتقنيات هائلة تعطيه تفوقا في توليد الأهداف وبرمجة آلات لاستهداف المدنيين، وهذا ما أزعج موظفي غوغل ودفعهم إلى التصدي لهذا التعاون الذي اعتبروه مشاركة في الإبادة؛ فرفضوه بقوة ولم يبالوا بالفصل من وظائفهم.

خطورة الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي أنه لا يقتصر على فلسطين المحتلة، وإنما يعمل على وضع كل المحيط العربي والإسلامي تحت الرقابة، فالسماح بدخول الجيش الإسرائيلي قواعد البيانات الأمريكية وتمكينه من الحصول على المعلومات من مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات والجوالات الشخصية يتيح للاحتلال قدرات أكبر مما لدى الأمريكيين، وهذا يعني أننا أمام خطر متصاعد ومتغول لا يمكن التعايش معه.