خلال دقيقة واحدة، نجحت أجهزة الاحتلال الإسرائيلي في توجيه أقسى ضرباتها إلى جسم المقاومة الإسلامية منذ بدء الصراع مع العدو، في عملية أمنية استثنائية من حيث القدرة على الوصول إلى الأهداف، وإلى الوسائط، وفي إظهار عناصر التفوق التكنولوجي والاستخباراتي الإسرائيلي، أدّت إلى إصابة أكثر من ثلاثة آلاف مقاوم ومدني من وحدات حزب الله، عجّت بهم المستشفيات في الجنوب والبقاع وبيروت والضاحية.
ما جرى أمس يضفي كثيراً من الدهشة من قدرة العدو على إيلام خصومه، ومن عدم ارتداعه عن القيام بأي عمل. وهو إذا كان يريد تأكيد تفوّقه الأمني، وأنه في حال يقظة دائمة، فقد أكّد المؤكد بأن من يواصل جريمته غير المسبوقة في غزة وفلسطين، يمكنه أن يفعل الكثير، بحيث لا مكان بعد اليوم لحديث عن تسوية وحلول، علماً أنه بعيداً عن الشعارات ورفع المعنويات.
ما الذي تريده "إسرائيل"؟
من جهته، قال الخبير العسكري والإستراتيجي العميد إلياس حنا إن استمرار عملية انفجار أجهزة اتصالات لاسلكية لليوم الثاني تواليا في لبنان يهدف إلى زيادة زرع الكثير من الفوضى المستدامة، وضرب الثقة والمعنويات، وإبقاء حالة اللااستقرار.
وأوضح حنا، أن إسرائيل تحاول إضعاف حزب الله وزرع الشك في إمكانية خوضه حربا كبيرة ضدها، كما تستهدف ضرب بيئة الحزب وواقعة الميداني، وإظهار عدم قدرته على حماية لبنان مع دفعه للاهتمام بالداخل وعزله عن إسناد غزة.
وأشار إلى أن طريقة القتال الغربية والإسرائيلية تستهدف منظومات القيادة والسيطرة والمراكز اللوجستية والوحدات العسكرية، مضيفا أن إسرائيل صعّدت عسكريا في الأسبوعين الماضيين بضرب مناطق أكثر عُمقا في جنوب لبنان.
واستبعد الخبير العسكري أن تكون هذه الانفجارات مقدمة لحرب برية، مرجحا أن يكون الأمر مرتبطا بحرب جوية مكثفة، خاصة أن أجهزة البيجر تعد وسيلة حزب الله لاستدعاء مقاتليه للجبهة والجهد القتالي "وهو ما يُعيق جهوزية الحزب لأي عمل عسكري".
ويقول رئيس تحرير صحيفة الأخبار إبراهيم الأمين، إن ما قام به العدو أمس مثّل جرأة في استخدام الشر الذي يسكن في عقل وقلب من فكّر وخطّط وبرمج وقرّر ونفّذ أكثر العمليات لؤماً وخبثاً. وهو شر لم يسبقه أحد إليه. وعليه، شكّلت العملية تحوّلاً في مقاربته للحرب مع لبنان، خصوصاً أنه أقدم، عن سابق تصور وتصميم، على توجيه ضربة يعرف مسبقاً أنها ستصيب مدنيين، وهو يدرك جيداً أن الإجراءات التي يتخذها المقاومون، تفرض على قسم كبير منهم عدم إدخال هذه الأجهزة إلى كثير من المواقع، بدليل أن مئات من هذه الأجهزة انفجرت أمس في مكاتب ومنازل وسيارات.
وأضاف، في مقالٍ له، "ما أكّده العدو في عملية تفجير البيجر أنه لا يريد التقيّد بقواعد الاشتباك التي تمنع الاقتراب من المدنيين أو المنشآت المدنية، وأنه لن يميز بعد اليوم بين مقاتل على الجبهة أو حزبي يعمل في مكتب بعيد، وأنه لم يعد يهتم بحصر القتال بين عسكريين.وهو يقول بوضوح إنه ضاق ذرعاً بحرب الاستنزاف التي تخوضها المقاومة ضده، ويريد تغيير المعادلة.
وتابع: "لكنّ العدو يعرف جيداً أنه دفع المقاومة، مرة واحدة، إلى الخروج من مربع القواعد التقليدية للحرب القائمة منذ نحو عام، وأننا بتنا أمام وضع جديد. خلال أقل بقليل من عام، كان العدو يقف حائراً أمام مآلات الوضع على الحدود الشمالية، ويحاول يومياً حصر أضرار جبهة الإسناد اللبنانية.
ويستطرد، "وعندما يصل إلى حدود اتخاذ قرار بعمل مجنون كالذي فعله أمس، فهو يحاول إفهامنا بأنه مستعدّ بصورة كبيرة لمواجهة جبهتنا. وكل ما قام به حتى الآن، بما في ذلك عملية أمس، يؤكد أنه يبرز عضلاته حيث يظهر تفوّقه الأمني والتقني وقوته النارية، لكنه لم يظهر بعد استعداده لحرب تصيبه في عنقه، فيلجأ إلى أعمال يفترض أنها تجنّبه توسيع دائرة النار."
ولا تزال خشية العدو من أمرين، الأول الخوف من إقدام قوة الرضوان على شن هجوم بري على المستعمرات الشمالية أو حتى أبعد من ذلك، والثاني أن تلجأ المقاومة إلى استخدام ترسانة من الصواريخ النوعية في قصف منشآته العسكرية أو حتى الاستراتيجية. بحسب الكاتب الأمين.
ويوضح، أن الخشية من هذين الأمرين تنبع من إدراكه لعدم تفوّقه فيهما. ولذلك، يفضّل أن يخوض معركة تستوجب أدوات أمنية متطورة وجريئة، ودمجها بأعمال عسكرية عنيفة جداً، مثل القصف الجوي العنيف على أماكن يعتبرها مراكز أو قواعد للمقاومين، أو القيام بعمليات أكثر جرأة كما حصل في سوريا، عندما نفّذ عملية مركّبة، تضمّنت قصفاً جوياً وإنزالاً عسكرياً في منشأة عسكرية حساسة لم يكن ينفع معها القصف الجوي المتواصل.
ويخلص بالقول، إنه ما حصل، يثبت الحاجة إلى عقل وشجاعة، لكنه قد يفتح الباب أمام بعض الجنون الذي يفيد أحياناً في إيقاظ حواس من لم يعد لديه أيّ نوع من الإحساس!.
فيما يرى الدكتور في العلاقات الدولية، حسام مطر، أن العملية بالأمس واليوم تحاول تحقيق ما يطلق الصهاينة عليه "الانهيار الادراكي" من خلال عمليات صادمة تدفع الخصم الى الاعتقاد أنه منعدم الخيارات..
وأشار مطر، إلى أنه المطلوب كي الوعي والشك (لدى المقاومة وجمهورها) بكل شيء إلى درجة الاحساس بالشلل.
وأردف، أن هدف العدو الأن يسمى الهيمنة على التصعيد او بالتصعيد ضمن حرب استنزاف لامتماثلة.هو يقول إما توقفوا جبهة الاسناد وإما أنا ذاهب إلى خطوات تصعيدية وعليكم أن لا تردوا عليها بما يتجاوز خطوطي الحمر.
وبحسب الكاتب مطر، فإنه من المرجح جدا أن التصعيد الاسرائيلي سيبقى مركزا في الأهداف العسكرية (مع زيادة كما او نوعا او جغرافيا)...دون استبعاد مناورة برية تجاه قرى الحافة الأمامية أو بعضها التي لها رمزية أو أهمية جغرافية خاصة).
وبيّن مطر، أن نتنياهو يريد تحقق واقع جديد ليتصرف على أساسه مع الرئيس الأميركي الجديد حول جبهة لبنان أو لتوظيفه حين يتم وقف اطلاق النار في غزة بشروط عالية.
وتابع متسائلًا، "هذا التحليل يجيب لماذا لم يقم العدو بضربة افتتاحية لحرب واسعة مباشرة مع هذه التفجيرات وهو ما دفع بعض الصهاينة للقول أنهم أهدروا فرصة كبيرة".
لماذا كشف الإسرائيليون ذخرًا إستخباراتيًّا في عمل استعراضي ولم يبنوا عليه فعلاً إستراتيجيًّا؟!
ويجيب الكاتب والمحلل السياسي ساري عرابي، على السؤال، بالقول: للوهلة الأولى بدت عملية تفجير آلاف أجهزة "البيجر" بعناصر الحزب، وكأنّها تهدف إلى خلق حالة إرباك وفوضى في صفوف الحزب تمهّد لهجوم حربيّ واسع، إلا أنّ الاحتلال اكتفى بما حصل، دون أن يؤسس بذلك خطوة لاحقة، ممّا جعل العملية الاستخباراتية، بالرغم من عمقها وخطورتها، وكأنها قفزة في فراغ.
وأضاف، أن هناك مجموعة من الاحتمالات:
1. أنّ "إسرائيل" حاولت بعمل استخباراتي واسع دفع الحزب للردّ عليه، بحيث تحمّل الحزب مسؤولية توسيع حرب الشمال، وتوفّر لنفسها مبررات ذلك أمام الأطراف المعنية.
2. محاولة فكّ جبهة لبنان عن جبهة غزة، من خلال استنزاف متواصل للحزب.. هنا تسعى "إسرائيل" لتعديل الميزان الإقليمي لصالحها، والذي تتفوق فيه من هذه الناحية قدراتها الاستخباراتية الكاسحة، وهذا الجانب، في رأيي، المعضلة الأكبر في المواجهة بين "المحور" والكيان، وهو الاختلال الفادح في الميزان الاستخباراتي وحرب الظلال.
3.محاولة ردعية، لإقناع الحزب بأنّ أيّ عمل أكثر نوعية وتأثيرًا، أو أيّ خطوة حربية أوسع، ستكون كارثة عليه، بالنظر إلى ذلك التفوق الاستخباراتي والانكشاف الأمني.
4. خشية استخبارات الاحتلال من اكتشاف الحزب لخرق أجهزة "البيجر" دفعها للاستعجال في تفجيرها، حتى لا يذهب جهدها سدى، بالرغم من أنّها بذلك تكون قد خسرن ذخرًا استخباراتيًّا كان يمكن استثماره فيما هو أكبر. وهذا الاحتمال تحدثت عنه بعض الأوساط الإعلامية، الأمر الذي قد يعني ظهور مؤشرات ربما كانت ستحمل الحزب على الشكّ في تلك الأجهزة.
ويختم بالقول، إنه في العموم وبقدر ما أنّ الخرق الإسرائيلي خطير، فمن شأنه أن يدلّ الحزب على منافذ الانكشاف الأمني، وهذا الجانب الجيد في الأمر.