بينما كان التسعيني محمود الجعبري، الذي أنهكته السنون، يقف عند باب مصلى مدرسة التابعين الشرعية بحي الدرج بمدينة غزة، فجر السبت الماضي، متأهبًا لأداء صلاة الفجر، تلك اللحظات كانت تمثل له السكينة والراحة وسط كل ما يعصف بحياته من مآسٍ بسبب الجرائم التي تمارسها سلطات الاحتلال في حربها المستمرة على قطاع غزة والتي بدأتها في السابع من أكتوبر الماضي.
ورغم بطء حركة الجعبري، التي زادت مع تقدمه في العمر، لم يمنعه ذلك من التّوجه إلى الصلاة، مُعتمدًا على إحساسه بالوقت والمكان، لكن ما أن اقترب التسعيني من المكان حتى أطلقت طائرات الاحتلال "الإسرائيلي"، صواريخها المدمرة مرتكبة مجزرة جديدة بحق المصلين من النازحين راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد وعشرات الإصابات.
أجساد مقطعة
في تلك اللحظة الحزينة، القول للجعبري، الذي كان يسمع ويتحدث لمراسل "فلسطين أون لاين" بصعوبة بسبب شدة القصف الذي سلب تلك الحاستين منه، قائلًا: إن "طائرات الاحتلال استهدفت المصلى بشكل مباشر، وأنا أمام مدخله، لأُقذف على بعد أمتار ويُغطَّى جسدي بالحجارة"، لافتًا إلى أنه كان يحاول بصعوبة الوقوف على قدميه، لكنه لم يستطع، إذ خارت قواه تحت ثقل الحجارة والدمار الذي حل بالمكان.
ويكمل: "حينما هدأ صوت القصف، تلاشت صرخات الضحايا، وبقيت مصابًا وعاجزًا، وبدأت أفقد ببطء إحساسي بالسمع والنظر، وكنت أعلم أن الكثيرين ممن كانوا يشاركوني، بما فيهم سبعة من أفراد عائلتي، قد فارقوا الحياة.
ويشير إلى أنه استيقظ وقتها على أصوات صرخات النساء والرجال من هول ما رأوه فالمصلين قطعت أجسادهم واشتعلت النيرات في بعضهم وبات من الصعوبة التعرف عليهم.
وبسبب التعب الشديد وصعوبة الحديث أكملت نعيمة الجعبري، التي كانت تجلس بجوار العم "محمود" قائلة: "إنها وبرفقة عدد من النزحين أزالوا الركام عنه وبدأوا بمحاولات إفاقته، وتحدثوا معه بصعوبة دون أن يجيب"، لافتةً إلى أنه نُقل إلى مستشفى المعمداني ليكتشف أنه يعاني من ضعف في حاستي السمع والنظر وعدم القدرة على النهوض والسير على قدميه بسبب شدة القصف.
وتلفت إلى أن العم "محمود" لم يعد يسمع سوى صدى الانفجارات وضجيج الألم الذي مزق المكان، فكل ما بقي له هو الألم والذكريات، والمصير المجهول الذي لم يعد يخيفه بقدر ما يؤلمه فقدان الأحبة.
مقبرة جماعية
وتشير الجعبري، إلى أن من بين الشهداء سبعة أفراد من عائلته، الذين لم يجدوا ملاذًا آمنًا من بطش الاحتلال رغم نزوحهم بعد تدمير منزلهم في حي الشجاعية منذ الأسبوع الأول للحرب على القطاع، لمدرسة التابعين.
لم تكن عائلة الحاج "محمود" تدري أن هذا المكان، الذي احتمت فيه مع أفراد عائلته المكلومة، سيتحول إلى مقبرة جماعية في لحظة قاسية.
تلك اللحظات التي عاشها التسعيني محمود الجعبري، لم تكن، مجرد تجربة فردية، بل هي جزء من مأساة إنسانية كبرى يعيشها آلاف الفلسطينيين، الذين لم يجدوا في مراكز الإيواء سوى محطة جديدة للألم في رحلة نزوحهم المستمرة.
وتتعمد سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" منذ عدوانها على قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، استهداف مراكز الإيواء التي تضم آلاف النازحين المدمرة منازلهم، ما أدى لاستشهاد مئات المواطنين معظمهم من الأطفال والنساء.