فلسطين أون لاين

شهداء شردتهم الحرب وجمعتهم صلاة الفجر

تقرير مجزرة "التَّابعين".. الصَّواريخ الإسرائيليَّة نالت من قامات مجتمعيَّة وأكاديميَّة

...
مجزرة "التَّابعين".. الصَّواريخ الإسرائيليَّة نالت من قامات مجتمعيَّة وأكاديميَّة
غزة/ يحيى اليعقوبي:

مع ساعات فجر السبت، كانت أصوات الإسعافات مريبة على قلب سندس أبو كرش، بعدها توالت الأخبار عن قصف الاحتلال استهدف مدرسة التابعين بمدينة غزة والتي تأوي آلاف النازحين.

قبلها بلحظات أدى النازحون في المدرسة صلاة الفجر، جمعتهم الصلاة بعدما شردتهم الحرب بعيدًا عن أحيائهم فنزحوا للمدرسة من شمال القطاع ومن شرق مدينة غزة، فكانت مأوى لهم، ولم يدروا أنها ستكون صلاة الفجر الأخير، التي ستكون شاهدة على شهادتهم، وعلى مجزرة دموية ارتكبها الاحتلال الإسرائيلية استخدم فيها أسلحة محرمة دوليًا.

أسرعت أبو كرش هي وأمها للاتصال بابن خالها مجدي التتر والذي يتواجد بالمدرسة، لكنه لم يجب، ولم يرد على رسائل أرسلت على هاتفه، فكان التوقع أن يكون بين قائمة شهداء طويلة تجاوزت 100 شهيد، في مجزرة دموية ألقت بأوتاد القهر على قلوب أهالي قطاع غزة المنهكة والتي لم تعد قادرة على حمل أخبار فقد جديدة.

خبر صعب

راقبت سندس الساعات وهي تبحث عن أي خبر يطمئنهم، ويطمئن عائلة مجدي النازحة لجنوب القطاع، ليأتي الاتصال عند السابعة والنصف صباحا من خالها، يفيد بعثورهم على جثته بين الشهداء.

"كان وقع الخبر صعبا علينا، فكرنا بوالديه فهو الابن الثاني لهما الذي يرتقى خلال الحرب وأخيه الأكبر أسيرًا في سجون الاحتلال، فكرنا بحال زوجته وأطفاله فهو السند والأب الحنون له، لكن عزاؤنا أنه شهيد ينعم بالجنان ولا نزكي على الله أحد" تقول أبو كرش لموقع "فلسطين أون لاين".

ومجدي التتر (43 عاما) مدرب سباحة رغم إعاقته الحركية بفقد قدمه في عمر صغير، فقد منزله في بداية الحرب على غزة ونزحت عائلته إلي الجنوب حفاظاً على أرواحهم، لكنه أصر البقاء في غزة رافضاً النزوح رغم إلحاح عائلته وإصرارها عليه للنزوح ولم الشمل بينهم.

بعد أشهر من الحرب، فقد التتر نجله الأكبر "معتصم" عندما حاول ابنه العودة لغزة، وحتى اليوم لا تعلم عائلته أي خبر عنه، لجأ إلى مدرسة التابعين بعدما ضاقت به السبل فلا ملجئ سواها، وخاصة بعد تدمير مستشفى الشفاء والمنطقة المحيطة بها والتي كانت عبارة عن مأوى له خلال الأشهر الأولى من الحرب.

فيما لم تتوقف فاجعة زينب الحواجري عند قائمة الشهداء الكبيرة التي وقفت تتفقد أسماءهم بذهول وبمشاعر مواساة لعائلاتهم، لكن زاد الألم والحزن عندما وقعت عيناها على صورة د. يوسف الكحلوت فكانت الصدمة كبيرة والمأساة عظيمة، بفقدان هذه القامة العلمية والأدبية.

تتلمذت الحواجري على يدي الكحلوت أثناء دراستها لبكالوريوس اللغة العربية وأثناء دراستها للنقد في الماجستير، عهدت فيه الشغف باللغة والعلم والوقوف على أصل كل كلمة وجذورها، وعُرف عنه غيرته على لغته ودينه، وتقديسه للأدب العربي، وقد ترك فيها حب النقد، فطالما ترك لها المجال لقيادة المحاضرة أو لتحليل قصيدة أو قصة أو عنوان بحثي.

تقول عن الجريمة: "هذا التوقيت يوضح لكل أعمى بصر وبصيرة مدى إجرام هذا المحتل، ومدى تماديه في القتل، ومدى تحديه لكل القوانين والعرائض والقواعد. لقد ذهب هذا المحتل أبعد مما قد يتخيله عقل البشر، فهو ضد كل ما هو إنساني:,

وأضافت وهي ترثي روحه وتستذكر مناقبه "تعلمت من الدكتور الكحلوت التعمق في اللغة والفكر وكيف تكون أسس النقد الصحيح، وطالما تطرق في محاضراته للحال الأمة وظروفها ولحال الشباب والطلاب، وللأخلاق والمبادئ التي يجب أن نكون عليها، فقد كان أستاذا ومعلما وأبا لطلابه، مخلصا متفانيا تقيا. كل الكلام لن يفيه حقه علينا".

"رحمه الله فهذه الخاتمة تليق به؛ نازحا، ساجدا، شهيدا" يغلف الحزن كلماتها.

واستشهد البروفسور الكحلوت في مذبحة ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد قصفه مسجدا في مدرسة التابعين بغزة أثناء أداء صلاة فجر السبت 10 أغسطس/ آب 2024، وهو أستاذ دكتور في اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بغزة، له العديد من الكتب والمؤلفات، كان أبرزها مقاربات نقدية في شعر المقاومة.

قامات علمية

غير بعيد عن استشهاد الكحلوت، تجرعت عائلة رجب مرارة الفقد وذاقت من كأسه المر، باستشهاد معتز رجب والذي نزح لمدرسة التابعين بعد اجتياح الاحتلال الأخير للشجاعية.

عرف عن رجب بأدبه وثقافته الواسعة، يقول أحد أقربائه لموقع "فلسطين أون لاين": "كان خيرة من أنجبت الشجاعية وغزة، كان بارا بوالديه وأهله وبلده. على مثله تبكي البواكي".

أضاف الشاب المثقل بوجع الفقد "فجعت بالمجزرة مثلي مثل كل أهل غزة، وكنا نترقب أسماء الشهداء خشية من الفاجعة، فالاحتلال لا يعرف أي مستوى أخلاقي ولا يهمه أي خطوط حمراء وهو يستبيح دمائنا في كل الأوقات لكن في مجزرة المصلين كان الأمر فيه إمعان في الإجرام مما تسبب لنا بحزن عظيم".

يصف معتز بأنه أكاديمي ومثقف وكان اجتماعيا ودودا وقريبا من الناس "لم نرَ يوما منه، إلا كل خير وكان دائم المساعدة للناس".

أما الشيخ محمد أبو سعدة، فكل غزة تعرفه من صوته  الندي يصفه البعض بأنه "صوت قادم من الجنة" لشدة خشوعه في الصلاة، كان إمام المصلين في مسجد مدرسة التابعين كما كان إمام المصلين في معظم مساجد القطاع، خطيبا مفهوما مرتبطا بدينه وعقيدته، كان يحرص على غرس قيم الإيمان وحب الدين والجنان في نفوس المصلين وهذه كانت السمة الغالبة على خطبه.

في إحدى خطبه المنتشرة عبر الانترنت بعد إعلان  استشهاده في المجزرة، وقف على المنبر وقرأت " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " وقرأ " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا" وكان يتحدث في هذه الخطبة عن الجنان، وكأنه ينعى نفسه شهيدا وموعدا، فختم: " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار".

أمَّ أبو سعدة الذي يعمل مديرا للأوقاف بمدينة غزة بالمصلين، وصلى بهم آخر صلاته، ليرحل معهم شهيدًا، ضمت الصلاة الكثير من النخب المجتمعية الذين شردتهم الحرب لتجمعهم مراكز الإيواء وصلاة الفجر التي استشهدوا فيها لتكون خير خاتمة، وشاهدة على إجرام الاحتلال بحق أهالي القطاع.

كان الشاب المثقف عبد الله السوسي واحدا من القامات الثقافية والعلمية التي نالت منها الصواريخ، فيحمل الشهيد درجة الماجستير في البلاغة والنقد، ودرس البكالوريوس في النحو والصرف، كتب في آخر منشور له بتاريخ 31 يوليو/ تموز الماضي: "لعمرك هذا ممات الرجال. ومن رام موتا شريفا فَذا".