لا يعرف إلا بابتسامته وطيبة الخلق في حضوره، أناقة مظهره ولباس وهيبته في مشيته أو جلوسه مع رؤساء الدول، سلامة اللغة التي يتحدثها وعمقها وإيجازها وقوتها سواءً إن ترجل في الحديث وكان هذه السمة الغالبة في خطاباته أو بمرات قليلة قرأها مستفيدًا من دراسته للأدب العربي في الجامعة الإسلامية وتعلقه بالقرآن الكريم، كان وحدويًا حاول جاهدًا انهاء الانقسام، وقدمت حركته تنازلات كبيرة لأجل ذلك لكن الاحتلال وأمريكا كانتا العائق أمام ذلك.
إسماعيل هنية، القائد العظيم والمفاوض العنيد الذي تمترس عند حقوق الشعب الفلسطيني، رفض على مدار أربعة عقود منذ انخراطه في مشروع المقاومة وترأسه للمكتب السياسي لحركة حماس وقبلها رئاسة الوزراء الفلسطيني، الرضوخ لمطالب الاحتلال، تجلت صلابته خلال تسعة أشهر من عمر حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة بتمسكه بمطالب الشعب الفلسطيني المتمثلة بوقف الحرب وعودة النازحين وانهاء الحصار فمورست عليه ضغوط كبيرة لم تنتهِ عند استهداف أبنائه وأحفاده بل كان هو الهدف لإزاحة هذا الجبل الشامخ عن طريقهم.
فجر الأربعاء الموافق، 31 يوليو/ تموز 2024 أطل حزينًا على الشعب الفلسطيني وأذيع نبأ اغتيال القائد هنية، خبر لم يعتد الشعب سماعه ولم يتهيأ له، فاعتاد الناس على ظهوره في الخطابات الرسمية لحماس أو في لقاءاته بالوفود الدبلوماسية أو المشاركة بأخرى، عندما اغتاله الاحتلال أثناء اقامته في العاصمة الإيرانية طهران بعد مشاركته بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد منصبه الجديد.
وبينما كان هنية يشارك في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد بحضور 80 رئيس دولة، كانت مراسم تنصيب مهيبة تعد له، بأن يقلد وسام الشهادة بعد مسيرة جهاد طويلة واكب خلالها مراحل الثورة الفلسطينية.
كان كالجبل الشامخ لم يتزحزح عن المطالب والمبادئ التي نشأ عليها، كالنخيل لا تهزه العواصف ولا تزيحه، صلبًا شجاعًا مقدامًا، كان دائمًا يردد "لن نعترف بـ (إسرائيل). القدس لنا" عاش على ذلك واستشهد على ما عاش على ما تمنى فكان يردد "نحن قوم نعشق الموت كما يعشق أعداؤنا الحياة" كان ينشد ذلك بصوته الندي راسمًا نهاية محتملة لطريق صعب يقوده "ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي. والموت يرقص لي في كل منعطفي".
أفنى حياته دفاعا عن القضية الفلسطينية وقضايا الأمة التي رفض أن تكون حركته جزءًا منها فحافظ على مسافة واحدة من الجميع، فكانت المسافة هي فلسطين والقدس فأعاد توجيه بوصلة الأمة التي حرفتها الخلافات الداخلية نحو فلسطين.
بداية صعبة
بدأ الرجلُ حياته صلبًا كما ختمها، فأبعد لمرج الزهور في بداية التسعينيات، ولا غرابة في ذلك فهذه الصلابة التي تضاف إليها الوفار والإيمان وبياض الصفحة ونقاء السيرة من شيخه مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين الذي ترأس هنية مكتبه وكان مستشاره، ثم لاحقا أصبح خليفته بعد الشهيد عبد العزيز الرنتيسي وغيرهم من ليقود حماس لتكون طليعة حركات المقاومة الفلسطينية الدفاع عن ثوابت وحقوق الشعب الفلسطيني.
بين زقاق مخيم الشاطئ بمدينة غزة الذي يروي كل ركن فيه حكاية شعب مهجر ولد القائد هنية عام 1962، بين ثماني شقيقات وشقيق آخر اسمه خالد توفي قبل سنوات، فكان والده المسن يصحبه معه للمسجد حتى نشأ بين جدران المساجد وحلقات القرآن الكريم الذي لم يفارقه، فتوفي والده أثناء دراسته الثانوية، وأصبح رئيس مجلس الطلاب بالجامعة الإسلامية ويولد من المخيم قائدًا ضج العالم باسمه وسيرته بعد أن أصبح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.
شغل منصب رئيس وزراء فلسطين بعد فوز حركة حماس بأغلبية مطلقة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006م، كما انتخب رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس في مايو/أيار 2017، وبعد وضع العراقيل أمام محاولاته انشاء ائتلاف حكومي مع حركة فتح اضطر لتشكيل حكومة تكنوقراط.
لم تكن محطات القائد هنية في مسيرة المقاومة مفروشة في الورود بل كانت مليئة بالمتاعب التي تحملها لأجل فلسطين، فقدم أولى زهرات عمره أسيرا اعتقل عام 1989 لثلاث سنوات، ثم نفي بعدها إلى مرج الزهور على الحدود اللبنانية الإسرائيلية مع عدد من قادة حماس، حيث قضى عاماً كاملاً في الإبعاد عام 1992، وعاش في أجواء باردة صعبة لم يعتد عليها.
تعرض لمحاولات اغتيال ومضايقات، حيث جُرحت يده يوم 6 سبتمبر/أيلول 2003 إثر غارة إسرائيلية استهدفت بعض قياديي حماس من بينهم الشيخ أحمد ياسين، ومنع من دخول غزة بعد عودته من جولة دولية يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 2006.
خلال تواجده بغزة رفض الخروج من المخيم الذي يفتقر لأدنى مقومات الحياة، رغم ترأسه لمجلس الوزراء الفلسطيني عام 2006 ورفض الانتقال للعيش في أحياء غزة الفاخرة فعاش بين الفقراء واللاجئين، حتى انتقل لقطر بعد ترأسه للمكتب السياسي لحماس عام 2017، ففرض ظروف المنصب وحاجته للسفر ولقاء المسؤولين ورؤساء الدول عليه العيش بعيدًا عن المخيم.
صال رجل السياسة الأول وجال كل البلدان حتى أصبح أحد أبرز رموز التحرر الوطني في العالم، كانت تفتح له كل الأبواب كان بمنزلة رئيس أي دولة، يجاهد من أجل قضية فلسطين والقدس والأسرى واللاجئين الذين كان واحدا منهم حتى ختم حياته كما بدأها.
جبل صلب
وقف القائد هنية شوكة في حلق كل مخططات التهجير في معركة "طوفان الأقصى" فحاولوا ثنيه أو انتزاع تنازلات منه باغتيال أبنائه وأحفاده لإجباره على التراجع فكانت مواقفه تزداد صلابة والتي ظهرت حينما تلقى خبر استشهاد أبنائه بكلمتين "الله يسهل عليهم" أغاظ بها أعدائه وأكمل جولته داخل المشفى، ولم ينتهِ مشهد الثبات برفع شارة النصر وهو وزوجته "أم العبد" وهي تجلس على السرير الطبي بالمشفى.
استقبل القائد هنية استشهاد أبنائه بالتسليم بقضاء الله فقال "في مداخلة مع قناة "الجزيرة": "أشكر الله على هذا الشرف الذي أكرمنا به باستشهاد أبنائي الثلاثة وبعض الأحفاد... بهذه الآلام والدماء نصنع الآمال والمستقبل والحرية لشعبنا ولقضيتنا ولأمتنا".
وأضاف "أبنائي الشهداء حازوا شرف الزمان وشرف المكان وشرف الخاتمة، وظلوا مع أبناء شعبنا في قطاع غزة ولم يبرحوا القطاع". وتابع قائلا: "كل أبناء شعبنا وكل عائلات سكان غزة دفعوا ثمنا باهظا من دماء أبنائهم وأنا واحد منهم... ما يقرب من 60 من أفراد عائلتي ارتقوا شهداء شأن كل أبناء الشعب الفلسطيني ولا فرق بينهم".
كما أدرك هنية وكل المتابعين أن اغتيال أبنائه كان بهدف الضغط عليه، وقال في رده على ذلك "هذه الدماء لن تزيدنا إلا ثباتا على مبادئنا وتمسكا بأرضنا، وأن الحركة لن تقدم تنازلات لـ (إسرائيل)، أدرك الاحتلال نفسه أن الرجل كالجبل لا يتزحزح فكانت إزاحته عن المشهد هو هدفهم.
يقول الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل عن القائد هنية "من عرف هنية يجده إنسانا بشوشا قريبا من القلب مناضلا متحدثا جيدا مفكرا وقائدا حقيقيا تمتع بكل خصائص القائد المرن الذي يعرف الطريق للهدف".
وعد عوكل اغتيال هنية خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني وقضية فلسطين، لافتا إلى أن القضية الفلسطينية خسرت شهداء كبار قبل هنية كالشيخ أحمد الياسين والرنتيسي وأبو عمار وأبو جهاد وأبو علي مصطفى.
أما المفكر اللبناني معن بشور، فعد اغتيال هنية في العاصمة الإيرانية طهران، استهدافا لرمز كبير من رموز الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية وأحد رموز التحرر الوطني في العالم، واغتيالا للروح الوحدوية التي طالما تحل بها هنية في كل نضالاته.
وتحدث المفكر بشور عن لقاءات جمعته بالقائد هنية قائلا: "كنت ألمس في هذا القائد تواضعًا ودماثة عالية في الخلق وصلابة قوية في وجه كل الأعداء، وانفتاحًا على كل قوى الأمة وحرصًا على وحدة الشعب وإدراكا لأهمية التكامل بين القوى الفلسطينية وقوى الأمة".
وأشار بشور لآخر لقاء جمعه بهنية حينما ألقى كلمة في افتتاح الدورة 33 للمؤتمر القومي العربي قبل شهرين، حيث استمع المشاركون لتجربة القائد هنية وكلماته بكل اهتمام، معلنين التزامهم بطريق النضال والمقاومة.
قبل نحو ستين عامًا، كانت الحاجة سعدية عبد السلام هنية (68 عامًا) التي تُكنى "أم رائد" ولم يزد عمرها آنذاك عن ثماني سنوات تجلس أمام عيادة الوكالة في انتظار وضع أمها مولودها الجديد تنتظر الطفلة بتلهف قدومه، في لحظة غلب النعاس والدها المسن وبقيت الطفلة تنتظر وضع المولود الذي سمعت صوت قدومه للدنيا، فانطلقت راكضة توقظ والدها وتبشره بمولود ذكر بعد ست بنات، فقال برضى "الحمد لله الذي وهبني على الكبر إسماعيل".
فجر الأربعاء وبعد ستين عامًا من حياة طيبة وفخر واعتزاز لأم رائد بشقيقها الذي يقود نضالات الشعب الفلسطيني وعاش مراحل عديدة من ثورته، أفاقت على الفاجعة وتلقت خبر الاغتيال بصبر واحتساب في لحظة تجمع في ذاكرتها ذكرى الميلاد والموت، تكوي قلبها جمرات الحزن، وهي تستحضر آخر مكالمة جرت بينهما قبل عشرة أيام عندما قال لها القائد هنية بعد أن ذكرته بمرور السنين وتقدمهما بالسن: "حياتنا طولت يختي صرت 60 سنة".
الجميع دائما يشاهد القائد هنية في المؤتمرات ويستمعون لكلماته الخطابية، لكن كيف كانت شخصيته في العائلة؟ تجيب شقيقته بعد أن انتزع السؤال ابتسامة متوارية خلف أحزانها: "كان رحيما على شقيقاته وبناتهم، يزور الجميع ويتفقد الكل، ويسأل عنا، لم يشغله السفر ولا كل الضغط الواقع عليه عن الاتصال بينا والاطمئنان علينا وكان سندنا الوحيد في هذه الدنيا بعد الله بعد أن توفي أخي خالد".
تستحضر بعض المواقف التي علقت في ذاكرتها "أذكر أنه جاءني قرب منتصف الليل ليطمئن على كوني مريضة، وأبلغوه أنني كنت متعبة، ويتأسف أنه تأخر في زيارتي، وأحيانا كان يترك مكتبه ويأتي للاطمئنان علي إن حدث مكروه، كان متواضعا يتمتع بروح طيبة، أطيب من الطفل الصغير، وإذا تأخرنا عن زيارته كان يطلب من أبنائه الاتصال بنا لنأتي لزيارته".
يطرق صوته أبواب ذاكرتها "عندما كنا نجلس معا، كان بشوش الوجه مبتسما دائما، تحب جلسته، يبتسم مع الأحفاد والأولاد والشقيقات"، وتردف بحسرة "الأرض كلها تبكي عليك يا أبو العبد اليوم".
الرجل السياسي الصلب الذي كانت كلمته دائمًا "لا" في كل من يريد نزع تنازل واحد منه تجاه القضية الفلسطينية، كان لا يرفض طلبا لكل من يقصده من أبناء شعبه سواء أثناء سيره مع مرافقيه بالطريق أو لمن يأتيه لطلب المساعدة لمكتبه، يستمع لمعاناتهم.
أسهمت حياة المخيم بصقل شخصية القائد هنية، فحمل على عاتقه قضية اللاجئين كما حمل قضية القدس والأقصى، وبقي في المخيم خلال تواجده في قطاع غزة وقبل ترأسه المكتب السياسي، وكان يعتبر بيته في المخيم "بيت عز وكرامة وفخر واعتزاز ورثه عن والده" رافضا الخروج للسكن خارج المخيم.
تصف شقيقها بـ "الرجل المتواضع" الذي كان يأكل مع الكبير والصغير، ويمشي بين الناس، ويعيش بين الفقراء، يزور المرضى ويساعدهم، يتفقد الجميع، كان طعامه متواضعا مثل صفاته فضل الحياة البسيطة في المخيم على بيوت فاخرة خارجه.
كان الرجل قريبًا من غزة بكل تفاصيل المعركة كيف لا وهو ينوب عن الأمة في قيادة المعركة، يتألم لما يحدث بغزة كما تألم لاستشهاد أبنائه، عبر عن ذلك في خطابه مخاطبا أهل غزة قائلا: "يا أهل غزة يا من تزفون في كل لحظة الشهداء، يا من يخرج الشهداء للرحمن زمرًا زمرا للرحمن وفدا، لا تبتئسوا ولا تحزنوا انتم الاعلون، لكم الاستعلاء بإيمانكم بمقاومتكم بقسامكم بشعبكم بأمتكم.
وختم "سلام عليكم أيها الأبرار الأطهار، سلام عليكم يا غزة يا شاهدة العصر وعلى العصر يا رافعة الكرامة، سلام عليكم عوائل الشهداء، يا عوائل الصبر والاحتساب".
وصف هنية حماس في ذكرى انطلاقتها الـ 21 بأنها "معجزة سياسية"، فالمعجزة كما ورد في خطابه، أن ترفع لواء المقاومة في زمن تحارب فيه المقاومة، وأن ترفع لواء الحرية في وقت استمرأ فيه البعض حياة العبودية، وأن تقف في وجه حصار لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلا له.
في ذلك الخطاب، تحدث هنية عن ما وصفه بـ "ظلم كبير" تتعرض له الحركة من الاحتلال وذوي القربي والإرادات الدولية، لأن حركته تمسكت بالحقوق والمبادئ والثوابت والمقاومة والصمود، واستخدموا في سبيل ذلك كل شيء. الاغتيال والحصار والعزل السياسي والتضييق تناثرت دماء الشهداء في الطرقات وأشلاء القادة العظام على الجدران تحت ضربات الطائرات ضيق على الشع وحوصر، لكنهم رغم كل ذلك لم يستطيعوا ضرب حماس عسكريا وسياسيا.
كان هنية واثقًا من انكسار العدوان خلال طوفان الأقصى، وهذا تمثل في إشارته بشكل متكرر وصارم في آخر خطاباته، إلى أنه من الوهْم الحديث عن أي ترتيبات في غزة دون حماس، أو المقاومة، ولم يكن ذلك فارغًا وإنما مستندًا لحقائق لا يمكن انكارها، فالمقاومة أوقعت خسائر هائلة في صفوف جيش الاحتلال وآلياته.
"قطر ستحتضن من هذا اليوم قطعة طاهرة من فلسطين" بهذه الكلمات زفّ التلفزيون القطري الرسمي القائد هنية سبقها جنازة مهيبة شارك بها مئات الآلاف في طهران، بينما وقفت زوجته أم العبد أمام جثمانه ورثت صلابته وتماسكه في لحظة الوداع والفراق "سلم على كل شهداء غزة، الله يرضى عليك ويسهل عليك، حبيبي في الدنيا والآخرة. وسندي في الدنيا والآخرة" شيع في الدوحة بجنازة مهيبة، وصلَّيت عليه صلاة الغائب في مساجد دول كثيرة.