"لي ثلاثة أيام بنام على الأرض بدون فرشة أو مخدة" مساحة لا تزيد عن متر أسفل درج مدرسة وبجانب المدخل وسط محافظة خان يونس، استطاعت المسنة أم عمر زيدان (73 عامًا) إيجادها بعد نزوحها القسري من بلدة خزاعة شرقي المحافظة.
أم عمر التي نزحت تحت القصف المدفعي لم تتمكن من أخذ أمتعتها، فلم تجد إلا قطعة من الكرتون تجلس عليها وتستعملها بديلًا عن فرشة للنوم، تجلس كما كل النازحين بذات المركز بلا فراش أو وسائد أو ملابس أو مياه أو طعام، يعيشون حياة قاسية يكتمل فيها مسلسل المعاناة.
على مدخل المدرسة تتوزع العائلات على شكل مجموعات على أرضية المدرسة لا يفصل كل عائلة عن الأخرى سوى بضعة سنتيمترات، تجلس النسوة بهذه الوضعية طوال الوقت، يرقبن بعيون الأمل أي خبر عن تطورات الأوضاع في شرقي المحافظة، ويأملن عودة قريبة لبيوتهن، وأن لا تطول حياة النزوح التي "لم تكن في الحسبان" فالكل اعتقد أن الاحتلال الذي دمر المحافظة كليا لن يعودا إليها.
بالداخل تمتلئ الصفوف بالعائلات النازحة، التي افترشت أيضاً الممرات ولم تفصل بين العائلة والأخرى سوى قطعة قماش، ويفترشون ساحات المركز وعلى درج المدرسة هربًا من الشمس الحارقة، في وضع مأساوي لا ينتهي هنا، فإضافة لذلك تجد طابوراً طويلاً على خزان المياه المحلاة لتعبئة آخر ما تبقى به قبل النفاد، ولا يتوقف الطابور عند المرحاض.
نزوح تحت القصف
تحاول المسنة زيدان كنس الذباب الذي يؤرق جلستها الصعبة على مدخل درج المدرسة وتخوض معركة "كر وفر" مع تلك الذبابات، تستعمل قطعة كرتون لطردها أو للتهوية، تقول لـ "فلسطين أون لاين": "خرجت من خزاعة مع الجيران وأثناء القصف المدفعي، بلا ملابس او أغطية وأنا مريضة وكبيرة في السن".
تنزح المسنة للمرة الرابعة بعد ثلاث مرات نزوح سابقة أصعبها استمرت عدة شهور في خيمة بمحافظة رفح، وعادت لمنزلها المدمر فعاشت بجانب أحد جدران المنزل في حياة صعبة عاشت فوق ركام منزلها لكن الاحتلال "استكثرها علينا" يتقد الغضب بصوت وملامح المسنة التي أكملت مطاردتها مع الذباب في لحظة تحجر كلامها مدركةً أن "العالم لن يتحرك لو قالت ألف كلمة".
بجوارها وبصعوبة وجدت هبة النجار فرشة وضعت طفلتها الرضيعة عليها، كانت الطفلة غارقة في النوم لا تدري عن صعوبات الحياة التي تحيط بها، بينما تكافح أمها لأجل توفير حليب لطفلتها أو غذاء لأخوتها.
تقف النجار بملامح تائهة على مصير مجهول تخشى من "شبح الأيام القادمة"، تبكي حالها بنبرة يكويها قهر تدفق من قلبها أثناء حديثها لنا قائلة: "خرجنا تحت القصف من شرقي خان يونس ولم نستطع حمل أغطية أو فراش، نجلس بدون طعام أو شراب"، متسائلة عن دور منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية من هذا الوضع القاسي.
هذه الصورة المأساوية تتكرر، وتعيش تفاصيلها الطفلة ليان البريم التي لا تستطيع تجاوز يوم النزوح وما عاشته فيه، تحاول استجماع المشاهد بينما يحيط بها عشرات الأطفال أثناء حديثها "عندما خرجنا أطلقت طائرات الاحتلال المسيرّة الرصاص علينا، وكانت القذائف تتساقط بقربنا، عشنا لحظة مرعبة كنا نركض نحاول الابتعاد، رأينا جثث الشهداء ملقاة على الأرض والمصابين، كنا سنموت لولا أن مرّ أحد الأشخاص بسيارته ونقلنا لمستشفى ناصر"، متمنيةً أن تعود لمنزلها.
تمسك والدتها طفلتها الرضعية التي ولدتها في الحرب، تضيف على حديث طفلتها ليان "منذ يومين أحاول خفض حرارة طفلتي بعد العذاب الذي عشناه أثناء النزوح سيرًا على الأقدام ووصلنا إلى هنا في ساعات المساء".
أما شام سهمود فلا تمتلك سوى الملابس التي نزحت بها، تنام الطفلة ذات الشعر الذهبي على حقيبة نزحت بها تستعملها كوسادة، بينما لم تجد الطفلة أي فراش تنام عليه فمنذ يومين تنام على أرضية المدرسة.
"نفسي أسافر برا وأكمل تعليمي زي أي طفلة في العالم" بملامح لم تفقد الأمل رغم عدد مرات النزوح التي بلغت 12 مرة، تتمسك الطفلة ليان المصري بحلمها الذي تتشبث به رغم مرارة النزوح.
مياه شحيحة
بعد يوم صعب نزحت فيه العائلة من شرق محافظة خان يونس، تمضي ليان يومها في محاولة توفير المياه الشحيحة داخل مركز الإيواء، ومع ساعات المساء تفرد ملاءة استطاعت العائلة الخروج بها تحت وطأة القصف والضربات، تتقاسم العائلة مساحتها.
ويعاني الأطفال في مراكز الإيواء من ظروف صحية صعبة إذ تنتشر الأمراض الجلدية في مراكز الإيواء والتي تتصاعد مع منع الاحتلال إدخال المنظفات إلى قطاع غزة بهدف زيادة الأمراض والموت.
وبدأت موجة النزوح من شرقي محافظة خان يونس الاثنين الماضي، بعد أوامر إخلاء لمناطق واسعة نشرها جيش الاحتلال الإسرائيلي سبقها قصف مدفعي عنيف، فلم يعط الاحتلال المواطنين فرصة لحمل الأمتعة والأغراض اللازمة للنزوح فخرجوا مشيا على الأقدام، وافترشوا الطرقات وممرات مراكز الإيواء كما رصدناها.
يعطي حسين النجار صورة أوسع للمعاناة عن سابقيه قائلاً وهو يشير نحو ساحة المركز: "هنا ننام بقرب القمامة والردم، لا نستطيع دخول دورات المياه او توفير مياه، الأطفال يعانون من أمراض جلدية".
ويتساءل النجار بملامح يرسم الغضب طريقا فيها عن "دور منظمات حقوق الإنسان في هذه المأساة التي لا تتوقف!؟، وأردف بذات النبرة ويتجه نظره للأطفال حوله "منذ ثلاثة أيام لم يتناولوا الطعام، بعد أن خرجت عائلاتهم بلا مال أو ملابس، ينامون بجوار بعضهم بقرب الردم أو القمامة.
في ساعات المساء، تمتلئ ساحة المركز بمئات النازحين الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، بلا أغطية وبوضع صعب تنعدم فيها الراحة أو الخصوصية، ويزداد الاحتكاك والضغط المعيشي والنفسي بعيدا عن منازلهم وهم يخشون أن يوسع الاحتلال عمليته العسكرية وعدوان على شرقي المحافظة لتصل لمجمع ناصر الطبي.
أما حسن النجار فلا زالت مشاهد النزوح تتحرك أمامه مستذكرا: "كانت الصواريخ كالمطر، خرجنا بلا أي شيء. ركضنا حتى وصلنا دوار أبو حميد وسط المحافظة".
يتحرك باتجاه مكان عائلته داخل إحدى الممرات تجلس في مربع صغير والدته وشقيقاته وأطفالهن في مساحة لا تزيد عن ثلاثة متر مربعة، يقف الشاب المنهك بملامح لسعتها الشمس و قلب يكويه الحرقة على حالهم الصعب، يعلق بصوت ضعيف من التعب والشقاء "بتقدرش تحط رجلك هان، الواحد يموت بداره اشرفله" هذا ما أدركه بعد تجارب نزوح مريرة.