أيادي أطفال تطايرت في السماء واختفت بين غبار صواريخ إسرائيلية حربية ثقيلة أطلقت على منطقة المواصي غرب محافظة خان يونس، جثث رجال ونساء شهداء ومصابين ملقاة على الأرصفة أو بين الأشجار، خيام دفنت واحترقت بفعل القصف، بينما كان النازحون يتناولون طعام الإفطار وبعضهم يصطفون على طابور المياه، أو التسوق استعدادًا ليوم نزوح جديد لم يتوقعوا أن يكون الأخير في حياتهم.
لم يكتف الاحتلال الإسرائيلي بهذه المجزرة التي بدأت بثلاثة صواريخ حربية ثقيلة، فعندما وصلت طواقم الدفاع المدني والإسعاف والمتطوعون من النازحين لنقل المصابين جرى استهدافهم بنحو أربعة صواريخ من طائرات حربية بدون طيار ومسيّرات منعت أي حركة للمكان في ذات البقعة.
على مدار أكثر من أربع ساعات لم تتوقف حركة الإسعافات التوجه لمستشفى ناصر لمكان الحدث لنقل المصابين والعودة إليه واستخدم المواطنون كافة الوسائل المتاحة لنقل المصابين.
وفاقت حجم الإصابات وأعدادها قدرات مستشفى ناصر الطبي المنهك بفعل اعتداء الاحتلال عليه في التعامل مع كثرة أعداد المصابين ونوعيتها فوصلت الكثير من الإصابات بأوضاع خطيرة مما أدى لتحويل عشرات الإصابات لمستشفيات أخرى.
نجاة بأعجوبة
على مدخل قسم الطوارئ بمجمع ناصر الطبي كانت مي محمد صلاح ووالدها وجدتها وشقيقتها يستعدون لمغادرة المشفى بعد إجراء الإسعافات اللازمة لهم، يحتارون بالعودة لخيمتهم الممزقة بمنطقة المواصي التي نزحت إليها العائلة قبل أسبوعين بعد أوامر إخلاء نشرها الاحتلال لمنطقة سكنهم بعبسان الكبيرة أم لمنزلهم شرق خان يونس مع وجود تهديد على حياتهم.
اختارت العائلة التوجه لمنزلهم شرق المحافظة بعد زيف ادعاء الاحتلال بأن منطقة المواصي آمنة، وهذا ما أدركه أبو محمد قائلا بملامح يعلوها الغضب: "قالوا منطقة المواصي آمنة فتوجهنا إليها، فارتكب فيها مجزرة لم أرَ أبشع منها في حياتي ولا في أي حرب من الحروب العدوانية التي شنها الاحتلال على القطاع بالتالي سأموت في منزلي بعبسان".
يتساءل صلاح وهو الذي لا يصدق أنه يجلس حيًا مع والدته المسنة التي حملها رغم معاناته من "الغضروف" لحظة الهجوم، وابتعد بها وأولاده المصابين قبل حدوث القصف الثاني، عن "منظمة حقوق الإنسان والأمم المتحدة الغائبة عن هذه المجازر!؟".
بجواره يتملئ رداء الصلاة الذي ترتديه ابنته المصابة "مي" بالغبار، تكبل ملامحها علامات الصدمة والرعب للحظات عاشتها كانت بين الحياة والموت فاختار لها القدر الحياة ونجت من وسط الأشلاء والشهداء.
تعيد صلاح رسم صورة أخرى للحدث لموقع "فلسطين أون لاين" قائلة: "كنا نجلس في الخيمة والوضع هادئا، فجأة ارتطم حجر برأسي وحجب الغبار رؤيتي وسقطت فوقي لوح زينكو وسقطت شقيقتي وأخي الصغار على الأرض".
تكمل وهي تحاول استعادة بقية المشاهد يتحجر الكلام برهة وتستعيد تفاصيله بصوتها المتعب "خرجنا من المكان بجروحنا، وحمل أبي جدتي وبعد اجتيازنا المكان لمسافة عشرات الأمتار انهالت صواريخ أخرى استهدفت طواق الاسعافات وكل من اتجه لاسعاف المصابين".
في لحظة تحول المكان إلى بركة دماء، أكثر ما يؤلم صلاح مشهد الأطفال الذي لا تستطيع تجاوزه "تخيل أن الأطفال الذين كانوا يلهون في المكان، ويعطونك أملا في الحياة والبراءة والضحك، تجدهم أشلاء حولك، هذا أكثر شيء موجع بالنسبة لي".
تمسك صلاح هاتفها المهشم بفعل القصف، بينما تحمد الله أنه نجى لتبقى على اتصال في العالم، وتعبر عن حزنها لكل من فقد ذويه بفعل المجزرة.
طابور مصابين
بداخل قسم الطوارئ كان المصاب أنيس أبو نار ينتظر وصول دوره لإجراء عملية جراحية بعد ساعة من لحظة إعداد المقابلة لإزالة شظية برأسه.
يجلس الشاب المصاب يلف رأسه ضمادة جراحية وتتصل يده بالمحلول، تلتصق بجسده بقع دماء بقية شاهدة على المجزرة الإسرائيلية، كما تلتصق بذاكرته مشاهد المجزرة: "لحظة القصف ذهبت للمكان المستهدف القريب من خيمتي، للاطمئنان على أصدقائي وأقاربي، وعندما وصلت كان هناك مجموعة شبان مصابين ملقون على الأرض، فاقتربت منهم فحدث الاستهداف للطواقم المسعفة فأصبت بشظية وبتنا بحاجة لمن يسعفنا، ولم يتمكن أي أحد من الوصول إلينا إلا بعد نصف ساعة".
يصف الشاب الذي استطاع قبل إصابته إسعاف ثلاثة جرحى بينهم طفل المشهد بـ "المروع" قائلا وهو يستحضر بقية المشاهد أمامه: "كانت جثث الأطفال ملقاة على الأرض وأمامك".
بينما كان الشاب محمد الذي أصيب أسفل عينه يستعد للدخول لغرف العمليات، قال لـ "فلسطين أون لاين" عن الحدث: "ذهبت لإسعاف المصابين، فحدثت ضربة أمامي لطواقم الدفاع المدني الذين اصيبوا إصابات خطيرة بعضها تعرض للبتر، وكلما اقتربت سيارة أخرى للإسعاف كان يتم استهدافها حتى وصلت الاستهدافات إلى خمس استهدافات بنفس المكان".
ويؤكد الشاب الذي تلف الجبيرة نصف وجهه وتملؤه بقع الدماء والغبار ويلتف حوله أفراد عائلته، أنه لا يوجد أي أحد في المكان إلا وتمت إصابته بفعل الصواريخ الإسرائيلية التي أدت لانتشار كمية كبيرة من الشظايا في المكان.
ولطالما أدعى جيش الاحتلال أن منطقة المواصي "آمنة" وطلب من النازحين التوجه إليها، لتكشف مجزرة المواصي زيف هذا الإدعاء، وأنه لا بقعة آمنة في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على غزة، وقبل ذلك ارتكب الاحتلال العديد من المجازر في المناطق التي أدعى أنها آمنة بعضها في منطقة المواصي نفسها وخلفت عشرات الشهداء.
وأمام وصول عشرات الشهداء والمصابين امتلأت جميع أسرة قسم الطوارئ بمستشفى ناصر، وبذلت الطواقم الطبية دورا بارزا في محاولة للسيطرة على عدد الإصابات الكبير، فتحول القسم لمعركة أخرى سابق فيها الأطباء والممرضون الزمن لتضميد الجراح.
بعض المصابين تمددوا على الأرض نظرا لعدم وجود أسرّة وضعهم جلس على كراس، بينما كان الأطباء يبذلون جهودا كبيرة في غرف العمليات والعناية المكثفة، وكانت بقع الدماء تملأ أي مكان يتجه إليه نظرك داخل القسم.
الجريح صبحي النبريص لم يجد مكانا بين الأسرّة الممتلئة، فجلس خارج مبنى الطوارئ بجروحه لحين إيجاد مكان له، يقول "كنت أحمل صديقي المصاب، ثم تفاجأت أنني سقطت معه وشعرت بشيء اخترق ظهري، فحمله أحد المسعفين ونقلت بسيارة أخرى، وعندما جئت اكتشفت أنه استشهد".
بملامح غاضبة عن المجزرة البشعة يتساءل النبريص عن استهداف "منطقة تمتلئ بخيام النازحين، وهي منطقة تقطع بقرب من محطة تحلية، والتي لم يحترم الاحتلال وضعها الإنساني الصعب ومعاناة الناس وهمومهم ليضيف هما جديدا لهم بهذه المجزرة".
وبحسب مدير العمليات بجهاز الدفاع المدني بمحافظة خان يونس الرائد محمد صيام قام الاحتلال باستهداف 4 سيارات للدفاع المدني أصيب على إثرها 7 أفراد من الطواقم المسعفة بينهم إصابات خطيرة.
وقال صيام لـ "فلسطين أون لاين": "استلمنا إشارة عن استهداف لخيام النازحين بمنطقة المواصي غرب خان يونس بثلاثة صواريخ حربية إسرائيلية، وعند وصول طواقمنا للمكان وجدنا مجزرة بمعنى الكلمة"، مؤكدا أن الاستهداف هدفه عرقلة العمل ورفع أعداد الشهداء.
وأوضح أن الاستهداف كان عنيفا وهناك حفر يصل عمقها 7 أمتار، إلا أن الطواقم ورغم معداتها القليلة لا زالت تبحث عن شهداء مدفونين تحت الركام.