فلسطين أون لاين

تقرير "جيهان".. أمٌّ تبكي "6 أقمار" غابوا في ليلة دامية

...
الوسطى - نبيل سنونو

انقلب سكون الليل صخبًا في لحظة واحدة، أطفال ونساء ورجال آمنون تحولوا تحت أنقاض منزل عائلة الحواجري في معسكر دير البلح إلى أشلاء ومصابين.

كانوا نيامًا، ومنهم نازحون أجبرهم القصف على ترك منازلهم، حملوا معهم أوجاعهم وآهاتهم، ولاحقتهم صواريخ الاحتلال في بداية حرب الإبادة الجماعية بأكتوبر/تشرين الأول.

جيهان الحواجري وزوجها وأبناؤها باستثناء نجلها الشاب "أحمد ياسين"، كانوا في المنزل المكون من طابقين، عندما باغتتهم طائرات الاحتلال الحربية بقصفه ليلة 21 أكتوبر.

"سمعت أنا وأبي قبل وقوع هذه الفاجعة صوت انفجار هز المنطقة، كان ذلك نتيجة قصف الاحتلال منزل جيراننا"، بقهر يسري في عروقه، يروي "أحمد ياسين" (19 عاما) تفاصيل المجزرة.

هرع الأب ومعه أبناؤه: "أحمد ياسين" وحمزة وحارث إلى الموقع الذي يقابله مسجد.

ينقش الوجع نفسه على كلمات "أحمد ياسين" لـ"فلسطين أون لاين": "بصفة أبي إمام ذلك المسجد توجهنا إليه لتنظيفه من الرمل والزجاج".

عاد الأب ومعه حمزة وحارث إلى منزلهم، وبعد فترة وجيزة سمع "أحمد ياسين" صوت انفجار، وهرع لمعرفة مكان وقوعه، قبل أن يصدم بأن القصف طال بيت عائلته.

بغصة في قلبه، يضيف: "علمت أن الهدف هو منزلنا، قلت: الحمد لله نصيبنا وأخذناه، بعدها وجدت أبي بخير قال لي: إخوانك هنا وهو يعدد أسماءهم ويشير إليهم تحت الأنقاض".

حاولا مناداة أهل المنزل والنازحين، ولم يكن لديهم أمل بأن أحدا على قيد الحياة، وسط نيران مشتعلة وقصف شرس جعل بيتا من طابقين أثرا بعد عين ضمن مربع سكني كامل، أودى بحياة العشرات.

بعث صوت جده (90 عاما) الذي أطلقه من تحته الأنقاض، حياة في قلب الشاب.

بعد معاناة ومحاولات مستميتة أنقذ المسن ونقل للعلاج في المستشفى، لكن بحالة خطيرة.

 

حزن لا يشفى

 

هي فاجعة تخط الأم جيهان أيضا فصولها بكلمات ممزوجة بالأسى، ونبرة متحشرجة: "أيقظني صوت انفجار قوي، شعرت أن البيت يسقط، اندفعت إلى الأسفل، وزوجي طار من شدة الضربة".

تطلق نظرات كسحب ماطرة لكن بالدموع، مستذكرة ما لا تنساه في حديثها مع "فلسطين أون لاين": "صار زوجي يتشاهد، لم أستطع مناداته، قال لي: أنا بخير، أين أنت؟.. جيهان.. جيهان، واستمر في النداء علي".

آثر زوجها مساعدتها، وطلب منها أن تمد له يدها عله يستطيع النجاة معها.

أخيرا، استجمعت قواها وأجابته، استمرت في دفع نفسها إلى أن عثرا على فتحة صغيرة خرجا منها، كمن يغادر الظلمات إلى النور.

أصيبت جيهان برضوض جراء القصف، نقلت في إثره إلى المستشفى قبل أن تتعافى، ولكن ثمة حزن عميق لا يشفى في قلبها.

في تلك اللحظات الثقيلة، كانت الأسئلة تدور داخل جيهان عن مصير أبنائها.

كأنه أوان تحقق تنبؤاتهم ووصاياهم لها، وأولها تلك التي قالها أحد أبنائها يوما: "عندما أستشهد أنت أول من سأطلب لها الشفاعة"، وكذلك قول ابنتها: "إياك أن تبكي عندما أستشهد، انتبهي سأكون سعيدة حينها وأنت تبكين".

وثالث وصية من ابنتها: "عندما أستشهد لا تصوروني في الكفن".

كلمات كسهام ثاقبة في مشاعر جيهان.

بدأت إجابات الأسئلة تتكشف عندما سمع "أحمد ياسين" أصوات صراخ أطفال تحت الأنقاض أطلقها طفلا شقيقته "مها" وقد أنقذ ثلاثتهم.

لكن جريمة الإبادة الجماعية لم تترك في قلب جيهان حيزا إلا وطرقته الحسرة.

في اليوم الأول للمجزرة عثر المنقذون على أبنائها: محمد (11 عاما) وسجى (13 عاما) وحمزة (22 عاما) وأمل (27 عاما) شهداء.

وكأن مصيبة واحدة لا تكفي، عثر المنقذون بعد يومين على جثامين ابنيها: حارث (15 عاما) وعمر (4 أعوام).

وفي المجزرة ذاتها، استشهد اثنين من أحفادها، وزوج ابنتها مها.

ولم يبق للأم المكلومة من أبنائها التسعة سوى ثلاثة هم: "أحمد ياسين" ومها ويحيى الذي يعمل خارج فلسطين.

"الحياة قبل استشهادهم كانت أحلى ونحن آمنون في منزلنا، وعندما قصفنا شعرت بأن الدنيا باتت فارغة من حولي"، هكذا ترثي الأم أبناءها الستة.

لكن "أحمد ياسين" يحاول مواساة أمه، بتصميمه على إكمال دراسته في اختصاص تكنولوجيا المعلومات، وإعادة بناء منزلهم ومحالهم التجارية من الصفر فور توقف حرب الإبادة الجماعية.

وإلى أن تتوقف وتستعيد ملامح الحياة، يظل القلق ينهش فؤاد جيهان على ابنيها: "أحمد ياسين" ومها، والحزن يأكلها من كل جانب على أبنائها الشهداء الذين تصفهم بأقمار غابوا عنها في ليلة دامية.