مع مرور شهور طويلة دون وقف العدوان على قطاع غزة، وارتدادات ذلك المأساوية على سكان القطاع الذين يعانون الحصار والجوع فضلا عن القتل، ومع تواتر الحديث عن خطط "إسرائيلية" بتوافق إقليمي ودولي بخصوص "اليوم التالي" للحرب، ظهرت للعلن بعض المبادرات الفلسطينية المتعلقة بالشأن السياسي من خارج أطر الفصائل.
قبل أسابيع، وقّع المئات من نخب الشعب الفلسطيني على وثيقة بعنوان "نداء من أجل قيادة فلسطينية موحدة"، تدعو إلى مؤتمر وطني فلسطيني، ومؤخرا عقد المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج "ملتقى الحوار الوطني الفلسطيني الثاني" ووجّه بيانه الختامي نداء لتشكيل "تحالف وطني لدعم المقاومة والحفاظ على ثوابت الشعب الفلسطيني"، فضلا عن نداءات ودعوات وجهتها شخصيات أكاديمية مستقلة.
من الواضح أن الدافع الرئيس لهذا الجهد هو استشعار المسؤولية والرغبة في لعب دور وطني في ظل حرب الإبادة من جهة، والخطط السياسية لتصفية القضية الفلسطينية من جهة ثانية. ويدخل في إطار ذلك الخشية من عدم القدرة على استثمار الإنجازات الميدانية للمعركة الحالية إلى منجزات سياسية بحيث لا تضيع تضحيات الناس سدى، لا سيما في ظل تفرد القيادة الحالية لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية بالقرار السياسي مع غياب تام عن المعركة الحالية، في أفضل حالات إحسان الظن، بينما يشي الواقع وبعض التصريحات بتخندق مختلف في الحرب وانتظار فرصة استثمار نتائجها المحتملة أو المرغوبة.
فما المطلوب اليوم من المبادرات المختلفة؟ وكيف يمكن أن تخدم القضية الوطنية وتتناغم مع متطلبات الحرب؟
ينبغي أولا التذكير باستثنائية المعركة واللحظة التاريخية. لقد سمّى الكيان الحرب الحالية "معركة وجودية"، وهو محقّ في ذلك، إذ تآكلت أو ضعفت الكثير من الأسس التي بنى عليها مشروعه، لكنها أيضا حرب وجودية أكثر بالنسبة لنا كفلسطينيين. فالمطلوب -إسرائيليا ومن أطراف أخرى- سحق المقاومة (وليس فقط هزيمتها) وتصفية القضية وتهجير الناس إن أمكن. بمعنى أن المبادرات الصادرة عن أي طرف فلسطيني، أكاديميٍّ أو ناشط أو مستقل، ينبغي أن تستحضر حرب الإبادة الدائرة وأهدافها البعيدة والواقع الإنساني المأساوي والمآلات المحتملة.
في المبادرات المذكورة ومثيلاتها تلمح قلقا واضحا على مسألة الشرعية والقيادة والحديث باسم الشعب الفلسطيني والتقرير عنه، ولذلك تظهر دعوات لتحالف أو مؤتمر لإصلاح منظمة التحرير وغير ذلك. بيد أن التجربة التاريخية، وخصوصا في العقدين الأخيرين، تؤكد على أن هذا المسار مسدود بقرار من "أبي مازن" الذي ألغى الانتخابات المتفق عليها ضمن مسار المصالحة خشية من نتائجها. فالحقيقة الماثلة أن ثمة مجموعة قيادية متنفذة متغولة؛ ليس فقط على القرار الوطني الفلسطيني من خلال المنظمة والسلطة، ولكن حتى على قرار حركة فتح نفسها التي نستطيع تلمس عدم رضا بعض قياداتها وكثير من كوادرها وأنصارها عن أداء القيادة.
ومما ينبغي التذكير به أن الشرعية والقيادة في حركات التحرر تختلف عنها في الدول المستقرة، حيث تأتي من الفعل النضالي في الميدان ومدى القدرة على تمثيل آمال الشعب وطموحاته، ثم يتحول ذلك لاحقا لعنوان سياسي أو تأطير رسمي، وليس بالضرورة بانتخابات وتعيينات.
لقد كانت معركة الكرامة بأدائها ونتائجها ورمزيتها عنوانا لتسيد حركة فتح العمل الوطني الفلسطيني وترؤس منظمة التحرير لعقود طويلة. وفي الحرب الحالية يمكن النظر لمن امتلك قرار الحرب، ومن استعد لها، وموقف الناس من مواجهة الاحتلال، ومن الذي يتفاوض معه الأعداء والوسطاء، ومن القادر على وأد الخطط المشبوهة بخصوص إدارة غزة بعد الحرب لتقرير من يقود فعلا ومن يمثل الناس حقا.
وعليه، أفترض أنه لا ينبغي للمبادرات النخبوية أن تنشغل كثيرا بسؤال القيادة والشرعية، ولكن أن تعمل على مسارين أساسيين: الأول العمل السريع والمكثف بكافة الوسائل لتخفيف الضائقة الإنسانية في القطاع، وعلى وجه التحديد تجويع سكان شمال القطاع، والثاني المساهمة في الإطار السياسي لما بعد الحرب.
الأكاديميون والإعلاميون والنشطاء والمستقلون عموما ليسوا سياسيين أو بشكل أدق ليسوا حزبيين وفصائليين، وبالتالي فالمطلوب منهم الكثير من الوضوح والصراحة في الموقف والخطاب والقليل جدا من المجاملات والمواءمات.
وعليه، وبغض النظر عن الانتماءات الحزبية أو الآراء السياسية، فالمعركة الاستثنائية تفرض على الجميع مسؤوليات ضخمة. والمطلوب هنا حشد الدعم للمقاومة (بتجريد عام لمن أراد) التي تخوض معركة مصيرية للحفاظ على ما تبقى من القضية، ما يدفع لاتخاذ موقف واضح من القيادة الحالية للمنظمة والسلطة بتوصيف دقيق للمسؤولية والدور والموقف.
تركز معظم المبادرات على فكرة إصلاح منظمة التحرير، بعدِّها مكتسبا فلسطينيا حقيقيا لا ينبغي التهاون فيه، وهذا صحيح، لكن ليس على قاعدة "تأليه" منظمة التحرير وتخليدها وتصنيمها. صحيح أن المنظمة كانت إنجازا وطنيا للفلسطينيين، لكنها كانت بالنسبة للمنظومة الرسمية العربية محطة للتخلي عن مسؤولياتها. وفي ما بعد أوسلو، كانت القيادة الفلسطينية نفسها هي من وضع المنظمة في الثلاجة وأخضعها للسلطة الوليدة، وهو ما انعكس جزئيا بعد فوز حماس في انتخابات 2006 واستشعار الحاجة للاستقواء عليها بالمنظمة ولجنتها التنفيذية ومجلسها المركزي. أكثر من ذلك، هب أن المنظمة ضمت إليها حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من الفصائل فضلا عن هيئات وشخصيات وطنية، من يضمن تعامل العالم معها بطريقة تختلف عن التعامل مع حماس بعد فوزها في الانتخابات عام 2006؟ فما بالنا وعباس ومن معه مصرّون على منع حصول ذلك، بل وحتى الاجتماع على مشروع وطني موحد بعد ما يقرب من تسعة شهور من حرب الإبادة؟
إن مسك العصا من المنتصف لا يساعد في الضرب ولا الإسناد، بل يغلب على الظن أن يفيد فقط في التلويح من بعيد، وهو أمر غير مفيد في هذه اللحظة الحرجة. إن حساسية المرحلة الراهنة تفرض على الكل الوطني وفي المقدمة منه النخب؛ تسمية الأمور بأسمائها الحقيقية ولعب الدور الوطني المطلوب اليوم.
والمطلوب اليوم قيادة فلسطينية موحدة على خيار المقاومة والصمود والحفاظ على ثوابت الشعب وقضيته، واستثمار بسالة المقاومة وتضحيات الشعب لتحويل الأداء الميداني إلى أهداف سياسية وطنية. فإن كان ذلك بإصلاح منظمة التحرير فبها ونعمت، وإلا فليكن الاستبدال أو الإلغاء إن تطلب الأمر ذلك، فالهيئات وسائل لا غايات ولا سيما في مراحل التحرر.
ينبغي أن تفهم القيادة الفلسطينية المتنفذة والمتنكرة لكل مناشدات الإصلاح والوحدة والعودة للخيار الوطني؛ أن تفردها واستمرار رهانها على مسار التسوية وما يرافق ذلك من تنسيق أمني وما شابه غير مقبول شعبيا ولا يمكن له أن يستمر، بما في ذلك التلويح برفع الغطاء عنها وإعلان خروجها عن الصف الوطني.
إن المعركة السياسية التي ستلي الحرب لن تكون أقل منها وطأة وأهمية وصعوبة وخطورة، حيث ستكون ملفات الإغاثة والعلاج وإعادة الإعمار أدوات للضغط والمساومة وفرض الشروط، رغم أنها حقوق إنسانية أساسية بسيطة. ولذا، ينبغي أن يكون صوت الشعب وموقفه معروفا وواضحا وصادحا، يحمي ظهر المقاومة التي تقود نضاله ويدعم موقفها، والنخب بكافة أشكالها هي التي تحمل مسؤولية تمثيل الشعب والنطق باسمه في هذا المجال، وهذا ما عليها فعله.