فلسطين أون لاين

رغم بتر طرفه الأيمن

تقرير أنور أبو هولي.. مسعف "ستيني" على خطوط النار

...
أنور أبو هولي.. مسعف "ستيني" على خطوط النار
الوسطى - نبيل سنونو:

انهمر الرصاص في محيط مهمة "إنقاذ حياة" غامر فريق مسعفين بينهم الستيني أنور أبو هولي بتنفيذها بينما كان شاب عالقا أسفل عامود باطون، ينتظر بارقة أمل.

أصر الفريق قبل أيام على الوصول إلى منطقة في شرق البريج رغم الاستهداف المباشر من قوات الاحتلال، لانتشال أربعة شهداء، وعندما علم بوجود الشاب حيا، بادر "أبو هولي" بالتوجه إلى هناك لإسناد الفريق انطلاقا من شرق مخيم المغازي.

"استنجد الشاب بنا، لم يكن بمقدورنا تركه، رغم إطلاق النار الكثيف في الأرض من حولنا، وهتف الناس لنا: خليكوا.. خليكوا، وقد نجحنا في ذلك بعدما زحزحنا عامود الباطون وأخرجناه بمخاطرة"، بملامح تحمل تفاصيل رحلته الممتدة منذ أكثر من 30 عاما في الإسعاف، يروي أبو هولي لـ"فلسطين أون لاين"، حدثا لا ينساه.

اشتعل رأسه شيبا، ولا يزال أبو هولي متمسكا بأداء مهامه الميدانية، وبعمله مديرا للإسعاف في "الهلال الأحمر" بالمحافظة الوسطى.

photo_2024-06-24_19-57-36 (2).jpg
 

عام 1990 بدأ مشوار أبو هولي مع الإسعاف عبر "الهيئة الخيرية"، التي كانت تنشط في الوسطى وغزة ورفح حتى عام 1994 عندما أنشئت وزارة الصحة، ونقل للعمل بها.

ومع تأسيس جمعية الهلال الأحمر انتخب مع مجموعة من الشباب للانتقال إليها نظرا لأقدميتهم في العمل، وأنشئت لها مراكز عدة في جباليا وغزة والوسطى ورفح وخانيونس.

متأهبا، يجلس أبو هولي في مكتبه للقيام بأي مهمة إسعاف تناط بفرقه في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية على غزة للشهر التاسع تواليا.

يقول: "أوجه زملائي للتحلي بسعة الصدر مع شعبنا المكلوم".

لكنه وزملاءه تحولوا إلى "هدف" للاحتلال أثناء أدائهم مهام الإسعاف.

"لا احترام لشارة الهلال الأحمر ووزارة الصحة"، بهذه العبارة يشرح كيف استباح الاحتلال دماء المسعفين والطواقم الطبية في قطاع غزة.

بألم، يذكر أبو هولي أن زملاء له استشهدوا وآخرين أصيبوا نتيجة لذلك.

من هؤلاء زميلاه: يوسف معمر وفادي المعني وآخران متطوعان، هرعوا لإنقاذ مصابين في دير البلح، وفي طريقهم إلى المستشفى استهدفتهم طائرة "كواد كابتر" واستشهدوا.

photo_2024-06-24_19-57-35.jpg
 

وارتقى 498 شهيدا من الطواقم الطبية في القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفق معطيات وزارة الصحة.

ولخطورة عملهم في مناطق حولها الاحتلال إلى بؤر نار لم يجد المسعفون مأمنا لهم أثناء محاولتهم إنقاذ حياة مصابين.

يتابع أبو هولي: "زملائي يخرجون إلى مهامهم وهم يعلمون أنهم ربما لن يعودوا ويودعون بعضهم البعض، فمنهم من نذهب إليه ونجده شهيدا أو مبتورا".

هكذا تحول المسعفون إلى ضحايا كما أبناء شعبهم لدفعهم إلى الخروج من الخدمة، لكن كل ذلك لا يثنيهم عن مواصلة عملهم.

يقول المسعف: الاستهداف لا يردعنا ولا يثنينا عن الخدمة الإنسانية.

ويروي أبو هولي شهادات عن أطفال عثر عليهم تحت الأنقاض دون حول لهم ولا قوة، أدمغتهم خارج رؤوسهم، ومنهم من هو محروق أو مبتور نصف جسده.

نزوح وبتر

لكنه هو أيضا "مكلوم" باستشهاد اثنين من إخوته مع زوجتيهما وأطفالهما وعدد من النازحين كانوا في الطابق الأخير من أحد المباني بمخيم المغازي، الذي استهدفه الاحتلال، فارتقى جميعهم.

انهار سقف الطابق عليهم وعلقت جثامينهم أسفله.

هرع إليه الناس: "أهلك استشهدوا.."، توجه إلى المكان واستدعى إسعافا رغم علمه أنهم لن يتمكنوا من عمل شيء في "منطقة خطرة".

في هذا الحدث، استشهد أيضا ثلاثة من أقاربه باستهدافهم من "كواد كابتر" عندما هموا إلى المنطقة لمساعدة أحبائهم.

لكن كأن هما واحدا لا يكفي، تضرر منزل أبو هولي جزئيا من القصف الجوي والمدفعي وتحول أيضا إلى نازح، حاله كحال نحو مليوني مواطن في القطاع.

ولدى أبو هولي أربعة أبناء وثلاث بنات، ومع ظروف الحرب يعمل جاهدا للموازنة بين مهام الإسعاف، والاتصال بأهله.

ويقاوم أبو هولي إصابته التي تعرض لها في 2006 وأدت إلى بتر طرفه الأيمن وتركيب آخر صناعي بدلا منه، للبقاء على رأس عمله.

وتعود تفاصيل الحكاية إلى اجتياح الاحتلال شرق المغازي آنذاك، وتوجه أبو هولي مع مسعفين إلى هناك لإنقاذ المصابين، وقد نجحوا فعلا في نقل حالات للمستشفى.

وخلال عودتهم، استهدف الاحتلال مجموعة من الشبان أثناء وقوف سيارات الإسعاف، ولما تقدم المسعفون لمساعدة المصابين سقط صاروخ من طائرة حربية بدون طيار أدى إلى بتر طرف أبو هولي الأيمن.

نقله زملاؤه إلى المستشفى،  ودخل في غيبوبة بسبب النزيف، وحول لاحقا لتلقي العلاج في الأراضي المحتلة سنة 1948.

ورغم تأثير إصابته عليه "يتنساها"، ليقينه بأنه إذا تفرغ للتفكير فيها فسيحبط.

ومنذ بداية عمله تعامل أبو هولي مع مصابين برصاص الاحتلال وقدم الإسعافات الأولية لهم ونقلهم إلى المستشفى.

واكتسب في وقت مبكر خبرات ميدانية في الإسعاف، وأخرى من التدريب الذي وفرته "الهلال الأحمر" بالتعاون مع جهات نرويجية وفرنسية.

وأتم أبو هولي عامه الـ60 في 17 أبريل/ نيسان.

وشغل أبو هولي منصب مدير الإسعاف بـ"الهلال الأحمر" في رفح لأكثر من 11 عاما قبل انتقاله إلى دير البلح.

"أساند زملائي في إسعاف المرضى والمصابين من منطلق أنني جربت الإصابة وكم يكون المصاب بحاجة إلى من ينقذه"، يواصل حديثه.

وينظر أبو هولي إلى الإسعاف على أنه خدمة تقدم للمريض بإخلاص لله، وهي تمد المسعف بمعنويات عالية، عندما ينقذ إنسانا في أمس الحاجة ليد تساعده.

"إنه عمل إنساني.. ندخل بيوت الناس للتعامل مع حالة ولادة، أو سقوط من علو، أو إصابة، ونعود من مهامنا ونحن نشعر بالسعادة لما قدمناه لهم، دون تفريق بينهم أو تحيز"، يتحدث عن الإسعاف بـ"نبرة حب".

ويعمل أبو هولي 18 ساعة يوميا، ويضطر أحيانا إلى البقاء على رأس عمله لـ24 ساعة بسبب ظروف العدوان على القطاع.

ولطالما واجه والمسعفون تحديات انقطاع الاتصالات وأزمة السولار، لكنهم عملوا على التغلب عليها.

ولا يفكر أبو هولي بترك عمله، قائلا: أحب أن أقدم لشعبي شيئا من خلال العمل الإنساني الذي يرفع معنوياتي، وإذا انقطعت عن العمل فستجدني أتعكز أو أجلس أمام باب المنزل بوضع صعب.

يجسد بذلك يقينه بأن "العمل حياة".