في بلادنا، وتحديدًا في بلادنا المحرومة من الحرية، المحرومة من اكتمال أفراد العائلة على سفرة واحدة، من أبسط الحقوق... قد لا يلحظ كثيراً الأبناء غياب والدهم؛ بسبب وجود الأم وقيامها بالدورين (الأم والأب) لكن! في غياب الأم من سيحلّ مكانها؟ وكيف ستكون حياة أبنائها وهي في السجن ؟ وكيف سيغيب من شريط ذكريات أولادها مشهد اعتقال والدتهم من حِجرهم وتعصيب عينيها وتقييدها ثم سحبها قسراً من البيت؟
الأسيرة الأُم سلوى أبو وردة (45 عاماً) من بيت لحم، ممرضة في مستشفى الحسين منذ 25عاماً، نزعها الاحتلال من بيتها بتاريخ ٢٠_٤_٢٠٢٤، تلك الليلة الحاضرة في ذهن أولادها رغم غيابها، إلى جانب عملها فهي أم لسبعة أولاد أكثرهم ابنتها تقى وعمرها ٢٢ عاماً وأصغرهم مسك ذات السبعة أعوام وما بينهما (رؤى، أحمد، محمد، سرى و شام).
في ذاك اليوم، عادت أم أحمد من المشفى وبدأت تركض بين واجباتها المنزلية وتجاه الأبناء مابين تحضير الطعام وإنهاء الغسيل وترتيب المنزل وإلخ... أتمّت واجباتها وخلدت إلى نومها باكراً، وبقي البيت عامراً بضجيج الأولاد، بعد منتصف الليل اقتحمت قوات الاحتلال منطقة العبيات جناتا.
طرقوا باب البيت بقوة، لتستيقظ الأم مفزوعة وما أن علمت بأن الجيش على باب البيت حتى قالت لابنتها "اليهود ماما البسي" لبست هي وتقى واستيقظ زوجها، طلبوا من تقى إيقاظ البنات ومن والدهم إيقاظ الولدين، وأخذوا أم أحمد إلى غرفتها للتحقيق معها طلبت منهم قبل خروجها أخذ معطفها ودوائها وأن تتوضأ قبيل خروجها، وسحبوها بقوة دون وداع أولادها مع عدم السماح لأولادها بالخروج ورائها، لكنها أم، استطاعت تبادل القبلات بالهواء مع أولادها وابتسامة صفراء شاحبة في وجوههم، مع الوصاية لتقى كونها الكبيرة بأن تهتم بالبيت وبأشقائها الصغار وأنها ستعود قريباً، وخرجت منذ ذلك اليوم ولا تعد حتى تاريخ كتابة هذا التقرير!
فترة التحقيق
بعد اعتقال أم أحمد نقلها الجيش إلى مركز التحقيق في "غوش عتصيون" مكثت نحو يومين، وفور وصولها المركز أخذوا منها "ظرف" دوائها؛ إذ أنها تعاني من القولون، ومن ثم جرى نقلها إلى سجن الدامون لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها بذكريات متعبة منسوجة بالأم والفقد بعيداً عن أولادها وبيتها. حتى الآن لا تزال موقوفة والتهمة الحاضرة عند الاحتلال هي التحريض على "الفيس بوك".
تفاصيل اليوم بلا الأم
تقول تقى بداية عن والدها الذي يحاول جمع شتات أسرته التي فرقها الاحتلال، يحاول بشتى الوسائل مساعدتي في أمور البيت ومتابعة أمور اخوتي وكان يعاونني في تدريسهم ، وقالت عن أوّل فترة الاعتقال، فكانت من أصعب الفترات عليّ شخصيًا.. لن أتحدّث عن أحدٍ غيري، ليس لأنانيّتي ولكن لحجم ما أحملُهُ من مسؤولية.. تأتي لحظات أشرُدُ فيها، كم يكبُر الإنسان، إلّا أنه يبقى بحاجة أُمّه دائمًا لو لم يكن يشعرُ في وُجودها بحاجته الشّديدة إليها إلّا أنه في غيابها سيشعر حتى أنه يحتاج أن يقول لها أّحبِّكِ يا أُمي...
وتتساءل تقى هل استغرق مني الوقت كثيرًا حتى أستوعب هذا الغياب أم أنني استوعبته على عُجالة؟ لإنه وبحقّ أخذتني الظروف وأخذني الوقت ولم ألحظ مشاعري ولا حتى الضغط الواقع عليّ، انغمستُ فيما وقعَ عليّ مرّةً واحدة وأضافت فجأة وجَدتُني في بيتٍ كبير أنا المسؤولة عنه، ولديّ 3 أخوات صغيرات، في الصف الأول والثاني والسّابع، وأُختٌ حامل لم تُتِمّ تجهيز حاجيات مولودتها.. وأخوان شابّان.. بالإضافة إلى والدي.. .
وأسهبت "لم أكن قد أنهيتُ فصلي الجامعي الذي لحُسنِ حظّي أنه كان الكترونيًا.. وجدتني في الوسط، لا يجبُ عليّ البُكاء أبدًا، لا يجوز، ممنوع.. لم أبكِ، بل وقفتُ وأعطيتُ المناديل للنّاس لتجفف دموعها من أثرِ صدمتهم بما حدث.. نعم بدأتِ الأيام تمضي، يومًا يلحقهُ اليوم الآخر، وفي كلّ يوم كنتُ أنتظر عودتها لتأخذ ما وضعته عليّ من أحمال.. لكنها من شهرين لم تعُد بعد.. ولا زلتُ أحمِلُ ما أحمله من مسؤوليات.. كنتُ أنامُ أُفكّر في طبخة الغد وأستيقظ باكرًا لأُحضّر الإفطار وأحضّر الغداء.. أُنظّف أُدرِّس البنات، وأحلُّ النّزاعات، أُسجّل نواقص المطبخ، وأستقبل الضيوف (في السّابق كان بوُسعي التّفلُّتُ منَ استقبالهم، أمّا الآن فلا) أحضر طاولة الغداء ثم العشاء ثم أهتمّ بالبنات وأرتب وأنظف، وهكذا كل الأيام مُزدحمة.. أصلُ إلى نهاية اليوم وسريري لا أشعر بأقدامي.. وللأمانة يعني كانت أوّل الأيام صعبة ومليئة بالأمل الكبير بأنها ستخرج ولن تطول غَيبتها.. وكنتُ أصل المساء مُنهكة، لكن اليوم وكأنّ الإنسان يعتاد التّعب كما يعتاد الرّاحة.. وهكذا مرّت الأيامُ صعبةً طويلة ثقيلة، فارغة من صوتها وظِلّ وُجودها، كنا نترقّبّ عودتها كل يوم.. لكنها منذُ أكثر من ٣٠ يوم لم تعُد.. لم نَعتَد غيابها طبعًا، لكن اعتدنا العناء بعدها"..
وختمت قولها في الواقع الأحداث كثيرة والأيام والمشاعر مُكتظّة وهذا ما خطرَ لي وأنا أكتب.. لكنّها..كانت أيّامًا صعبة، ولا أدري كم ستمتدّ لكن عسى أن يكون لقاؤنا قريبا..
حال العيد بدون الأم
تقول ابنتها الكبرى تقى مُنذُ أن بدَأتُ أعقِلُ وأستشعرُ قيمَةَ الأعياد وجماليّتها وأُمّي دائمًا معنا وبيننا و لم أعِش عيدًا واحدًا قطّ بدونها فيه لكن عيد الأضحى هذا هو أوَّلُ عيدٍ عليّ مُنذُ اثنانِ وعشرون عامًا ووالدتي ليست معنا. وأضافت صرنا في رابع أيّام العيد، ولم أدرِ كيفَ مرّتَ الأيام الماضية.
وبخصوص طقوس العيد تقول الأبنة، في أوّل يوم من أيّام العيد كنتُ أستيقظ على رائحة القهوة السّادة التي كانت تبدأُ أمّي بإعدادها من صلاة العيد، أفتحُ عينيّ أذهبُ إليها أجدها ترتّب الضيافة في الصالون وتضعُ الكعك والمعمول الذي عوّدتنا أبدًا وجوده في كل الأعياد، كانت تتحرّكُ في الدّار كأنها فراشة، على الرّغم من تعبها إلّا أنها كانت هي مَن تجعلُ من العيدِ عيدًا، بِرُوحها المرِحة وقولها لوالدي دائمًا" يلا يا زوجي عيّدني، ولا بطلعليش عدية؟ وَتَضحك، ثمّ تقولُ له: مسامحك مسامحك، المهم عيّد الولايا".
وأسهبت قولها أمّا هذا العيد، فلولا تعظيمي لشعائرِ اللّه لقُلتُ بدون أي تردّد لا عيد في هذا العيد... لكنني أُحبُّ العيد وأُحبُّ أّمي فيه أيضًا..في هذا العيد، فقدتُ لذّة النّوم في فترة الصّباح لأنني أنا من أعددتُ القهوة السّادة، وفقدتُ رائحة القهوة التي ستوقظني من النّوم لأنني أنا من أعددتها وأضافت كان لأُمي نُسُقٌ مُميّز في ترتيب الأثاث والضّيافة لم ألحَظه في هذا العيد، أنا من أعددتُ الإفطار، ولم يكُن هُناكَ بهجة لأَوّل لحظات العيد.. التي نـسلّمُ فيها على والدينا ونُعايدهم ويعايدون علينا.. مرّ هكذا كأنه لاشيء..
وأكملت تقى حتّى لفّة العيد، لم أسأل عنها.. لم تكُن تُهمّني... في عيد الفطر أمضت والدتي العيد معي في البيت.. ضحِكنا معًا.. كُنّا في البيت، لكننا مُبتهجتان...وقالت تقى لي أُختانِ صغيرتان، ٧و٨ أعوام، قبل العيد بيوم، قالت إحداهنّ لي: العيد حلو بس مش راح يكون حلو بدون إمّي.. على جميع الأحوال.. أخذ منّا شهرين لاستيعاب الأيّام بدونها، وفي النّهاية جاء العيد وها هو يرحل بدونها فيه...
أصبحت أما وأنتظر أمي
في الشق الأول من البيت توجد تقى وفي الآخر الشق الآخر رؤى، تلك ابنتها التي كانت تُجهزها لأمومتها إذ قبيل اعتقالها كانت تجهز أغراض المولودة الجديدة كونها الحفيدة الأولى لأم أحمد، وكانت من شدة فرحتها الدنيا بوسعها لا تتسعها، فكانت ما أن يعجبها شيء يتعلق بالبنات لتشتريه،
تقول رؤى صحيح أني تزوجت وخرجت من بيت أبي لكن أمي بقيت معي في تفاصيل حياتي كافة، لم تتركني لو للحظة، وحتى في أوقات مرضي كانت تزورني وتبقى بجانبي حتى تطمئن علي وغادر بيتي، في فترة حملي كانت بجانبي لحظة بلحظة .
وأضافت ثقلت واشتد مخاضي بتاريخ ٨_٦_ ٢٠٢٤وكانت أمي هي الكلمة الحاضرة على لساني بعد استغاثتي بالله، كنت اردد وأدعو لأمي كثيرا في وقت الطلق، رأيت كل الممرضات وكنت استحضر وجه أمي لتكون معي في أشد وأصعب لحظات حياتي، حرمني الاحتلال من أمي في أشد حاجتي لوجودها معي، أمي حنونة جداً وحساسة كنت أريدها أن تلملم شتات تعبي وتدعمني، ولكن دعواتها كانت على سمعي طوال الوقت وكنت أراها أمامي حتى وضعت ابنتي البكر أمامة.
هذه الفترة المصيبة التي تمر علينا كفلسطينيين لا تشبه أي حقبة عاشها من قبلنا، فالفيديو موجود في كل بيت، والحزن عمّ على المدن كافة، فما بين اعتقال أو قتل تسكير الحواجز واقتحامات متكررة وأخبار من الأسر قاهرة، ناهيك عن حرب غزة التي أبادت كل ما تبقى من إنسانية هذا العالم... عائلة الأسيرة سلوى هي صورة من صور ظلم الاحتلال.