فلسطين أون لاين

مزارعون يؤكدون سرقة السوائل الراشحة من المكب واستخدامها كأسمدة

سموم خطيرة يستخدمها مزارعون من "جحر الديك" .. فاحذروها

...
أماكن تجمع عصارة القمامة التي يستخدمها بعض المزارعين (أرشيف)
غزة / نور الدين صالح - توفيق المصري

يتسلل لصوص الزراعة نحو مكب النفايات في منطقة "جحر الديك" المحاذي للسياج الفاصل جنوب شرق غزة، للحصول على مستخلصات القمامة والتي تسمى "السوائل الراشحة" للنفايات، في حين تُقِرُّ الجهات الرقابية فشلها في متابعته والقضاء على هذه الظاهرة.

ويلجأ هؤلاء المزارعون لجلب هذه السوائل من مكبات النفايات لرشها كأسمدة على النباتات والمزروعات، كونها تحتوي على بعض المواد الكيماوية والعضوية، كبديل عن المواد التي منع الاحتلال إدخالها للقطاع، وفق قولهم.

رصد عن قرب

انطلق معدا التحقيق نحو مكب نفايات "جحر الديك"، غير مكترثين لموقعه الجغرافي، ورصدا المكب لعدة أسابيع متتالية ضمن جولات عن بُعد، ووجدا أربع حالات، لكنها رفضت الحديث ولاذت بالفرار.

شاهد المُعدان أحد المزارعين، وهو يتخذ طريقًا التفافية من خلف المكب وسط أراضٍ زراعية، وأوقف عربته على مسافة قريبة من المكب، وبعيدة عن بركة الراشح، وأكمل بطريقه مشيًا على الأقدام.

وفي أثناء عودته من تعبئته جالونًا من بركة "السوائل الراشحة"، روى أن الاحتلال يعرف كل المزارعين الذي يقتربون من الحدود، منوهًا إلى أنه يطلق النار صوب ما أسماهم بـ"الوجوه الغريبة" وغير المألوفة لديه.

ويدّعي المزارع الذي رفض الكشف عن اسمه، أن العصارة لا تسبب الأذى وخالية من السموم، معتبرًا أن الإفراط في رشها على الخضروات يسبب الضرر، مشيرًا إلى أن استخدامها يحتاج إلى معايير محددة، وفق تعبيره.

وبحسب المزارع، فإن السوائل الراشحة لا تؤثر في الأشجار الكبيرة، خاصة في ظل عدم وجود مصانع ضخمة للحديد والأسلحة بغزة، التي يمكن أن تؤثر نفاياتها في صحة الإنسان، وفق زعمه.

دراسة علمية

في خِضمِّ رحلة البحث حصل معدا التحقيق على دراسة علمية، تؤكد أن السوائل الراشحة، تحتوي على مواد سامة جدًا وتسبب أمراضًا خطيرة للإنسان والنباتات والتربة أيضًا.

وتُثبت الدراسة أن السوائل تحتوي على بعض المواد الكيماوية مثل النيترات والفسفور والحديد، بنسب عالية جدًا مقارنة مع المعايير الفلسطينية والدولية المطلوبة في أسمدة النبات.

ويؤكد د. أحمد حلس استشاري ومختص بقضايا المياه والبيئة، وصاحب الدراسة، أن السوائل الراشحة تحتوي على مواد كيماوية وعضوية بنسب عالية، وتشكّل خطرًا شديدًا على صحة الإنسان، وتسبب له أمراضًا خطيرة قد تصل للسرطان.

ويوضح حلس خلال حديثه مع معدي التحقيق، أن قطاع غزة ينتج قرابة 2000 طن من النفايات الصلبة يوميًا، وفق دراسة حديثة أجراها، منبهًا إلى أن كل طن ينتج من 200-250 لترًا من السوائل الراشحة شديدة السموم.

ويشير إلى أن ما يقارب 70% من النفايات الصلبة مواد عضوية، وهي مخرجات الكائنات الحية القابلة للتحلل، مشيرًا إلى أن المكب يحتوي على نفايات صلبة طبية وأدوية وغيرها من المواد الكيماوية الضارة.

ويؤكد حلس، أن مكب "جحر الديك، والمكبات الأخرى في القطاع، غير صحية وغير آمنة "مطلقًا"؛ نظرًا لغياب التطوير الحقيقي لها منذ 10 أعوام، ما أدى إلى تدهور واقع النفايات الصلبة.

وأظهرت نتائج الدراسة التي أجراها حلس، أن نسبة الـ(BOD) -أي المواد العضوية في السوائل الراشحة- (1821) ملغر/لتر، في حين أن المعايير الفلسطينية لاستخدامها في الزراعة (20-60) ملغر/لتر، والـ(TDS) –مستوى تركيز الأملاح المذابة- وصلت لـ(25296) ملغر/لتر، ووفق المعايير الفلسطينية لاستخدامها في الزراعة (1500) ملغر/لتر.

عمليات سرقة

أولى جولات البحث عن تفاصيل القضية كانت مع بلدية غزة وهي الجهة المشرفة على المكب، والتي أكدت تعرضه لعمليات سرقة من ما أسمتهم "النباشين".

ويكشف مدير عام الصحة والبيئة في البلدية المهندس عبد الرحيم أبو القمبز، أن البلدية رصدت وصول حوالي 15 من "النباشين" لسرقة المكب، مشيرًا إلى أن المكب يستقبل يوميًا من 1000-1200 طن من النفايات.

ويؤكد أبو القمبز عدم قدرة البلدية على رصد عمليات السرقة من بركة الراشح، "التي قد تكون حدثت؛ نظرًا لصعوبة الأوضاع الأمنية على الشريط الحدودي"، لافتًا إلى أنها تواصلت مع الشرطة وجرى استدعاؤهم.

وينبه إلى أن عددًا قليلًا من "النباشين" لا يزالون يصلون للمكب، "ونسعى لمنعهم لكن الفقر والبطالة يدفعان فئات فقيرة للبحث في الحاويات، لإعالة أبنائهم"، وفق قوله.

ويتفق محمد مصلح مدير دائرة النفايات الصلبة في سلطة البيئة، مع سابقه، مشيرًا إلى وجود حالات فردية لسرقة المكبات وأبرزها "جحر الديك".

ويوضح مصلح الأسباب التي تدفع المزارعين لسرقة السوائل الراشحة، والتي تتمثل باحتوائها على نسبة عالية من النيتروجين والفسفور، المفيد للنبات، إضافة إلى العناصر الضارة مثل المعادن الثقيلة.

وحول كيفية وصول السوائل الراشحة للإنسان، ذكر مصلح أنها تستقر في النباتات بعد فترة من رشها من قبل المزارع، ومن ثم تصل للإنسان عن طريقه، محذرًا من استخدامها بهذه الصورة.

سماد مهم

التقى معدا التحقيق بالمزارع أبو محمد وهو صاحب أرض زراعية قريبة من مكب "جحر الديك"، وأكد أنه يستخدم رواشح المكبات، كسماد مهم لزيادة جحم وإنضاج مزروعاته، متجاهلًا حجم الأضرار والأمراض الخطيرة التي تسببها للإنسان.

ويبرر المزارع أبو محمد وهو اسم مستعار، ذلك، بمنع الاحتلال الإسرائيلي إدخال الأسمدة التي تحتوي على النيتروجين منذ فرض حصاره على القطاع.

ويوضح أن النترات التي تحتوي عليها السوائل الراشحة تعمل على تسريع إنضاج الخضروات خلال فترة زمنية قصيرة جدًا، وتحافظ على جودتها لمدة تصل 20 يومًا، وعدم تأثرها بالبيئة المحيطة بها.

الرقابة مقصرة

من جانبه، أكد مدير دائرة الإرشاد بوزارة الزراعة نزار الوحيدي، سرقة السوائل الراشحة من المكب، مشددًا على ضرورة متابعة القضية من الجهات المعنية، وخصّ بالذكر قسم الرقابة في وزارته"، متهمًا إياه بالتقصير.

وقال الوحيدي: "يجب الضرب بيد من حديد لكل مزارع تسوّل له نفسه باستخدام هذه الرواشح في النباتات"، مشيرًا إلى أن الأشخاص الذين يتعاملون بها معروفون، وفق قوله.

وتنص المادة (24) في قانون الزراعة الفلسطيني رقم (2) لعام 2003، على أنه لا يجوز تسميد المزروعات بفضلات الإنسان أو بأي سماد أو نفايات سائلة أو صلبة مختلطة بها أو مستمدة إلا بعد معالجتها حسب المواصفات والمقاييس المعتمدة.

وبيّن أن وزارته تفرض عقوبة على من يتم ضبطهم، تتمثل بتجريف الأرض المزروعة كاملة، وفرض غرامة مالية على صاحبها.

تجدر الإشارة إلى أن مساحة الأراضي الزراعية في القطاع تبلغ 177 ألف دونم، فيما يبلغ عدد العاملين في المجال الزراعي 66 ألف، حيث تصل كمية الإنتاج من جميع المحاصيل 500 ألف طن سنويًا.

سموم خطيرة

وبالعودة إلى حلس، فقد كشف أن مكبات النفايات تنتج كميات هائلة من السوائل الراشحة، تصل إلى 50 ألف لتر يوميًا، معتبرًا إياها "نسبة عالية جدًا".

كما كشف عن وجود حوالي 60 ألف ملجم/ لتر من المواد العضوية، "وهي مواد شديدة السموم كونها ناتجة عن مخرجات بتروكيماوية وتركيبات عالية من المواد الكيماوية وغيرها، وقد تُصيب الإنسان بالسرطان على المدى البعيد"، وفق قوله.

وشدد على أنه لا يمكن "بأي حال من الأحوال" استخدام السوائل الراشحة في النباتات، ولا حتى في سقي الأشجار الكبيرة.

ويتفق د. سمير العفيفي مدير مركز الدراسات البيئية في الجامعة الإسلامية بغزة، مع سابقه، مؤكدًا أن السوائل الراشحة تحتوي على مواد خطيرة جدًا، تضر بصحة الإنسان وتسبب له الكثير من الأمراض، إضافة إلى تأثيرها في النبات أيضًا.

وأوضح العفيفي، أنها تحتوي على مواد كيماوية وعناصر ثقيلة ضارة بالنبات، إضافة إلى الفسفور والنيتروجين التي قد تكون غذاء لبعض النباتات الأخرى، مشيرًا إلى أنها تتحلل بعد مرور الوقت وتتسرب للنباتات.

واقترح العفيفي عدة بدائل أفضل من استخدام السوائل الراشحة، والتي أبرزها "الكمبس" والأسمدة العضوية الناتجة من روث الحيوانات والدواجن.

وفي نهاية حديثه، ألقى اللوم على الجهات المعنية في القطاع، وخاصة وزارتي البيئة والزراعة، بضرورة متابعة المزارعين ومنع تسويق أي مادة من هذه المواد غير المرخصة والتي تؤدي إلى أضرار بالصحة العامة.

تهدد التربة

ولا تقتصر خطورة السوائل على النباتات فحسب، بل يطال أذاها التربة، وفق ما أكده مدير دائرة النفايات الصلبة في سلطة البيئة مصلح.

وأوضح أن السوائل تستقر في التربة بعد فترة من الزمن، إثر رشها من المزارعين، منبهًا وزارة الزراعة إلى ضرورة مراقبة جودة المحاصيل، وإجراء الفحوصات اللازمة بشكل دوري.

وأكد ضرورة أن تكون هذه المكبات مصممة بشكل مُحكم ومحاطة بجدار، يمنع وصول العابثين إليها وسرقتها، لاستخدامها بأغراض غير قانونية تضر بشريحة كبيرة من المجتمع.

وبموجب قانون البيئة الفلسطيني المادة رقم (12)، فإنه لا يجوز لأي شخص أن يقوم بتصنيع أو تخزين أو توزيع أو استعمال أو معالجة أو التخلص من أية مواد أو نفايات خطرة سائلة كانت أو صلبة أو غازية إلا وفقًا للأنظمة والتعليمات التي تحددها الوزارة بالتنسيق مع الجهات المختصة.

رقابة ضعيفة

إزاء ما سبق، توجه "معدا التحقيق" إلى وزارة الصحة لمعرفة دورها في الرقابة على استخدام السوائل الراشحة كأسمدة للنباتات، كونها تسبب الأمراض وقد تصل إلى السرطان، وفق مختصين.

وهنا يؤكد سامي لبد مدير دائرة الصحة العامة في وزارة الصحة بغزة، ضعف رقابة وزارته لقضية استخدام السوائل الراشحة من النفايات كأسمدة للنباتات.

ويوضح لبد، أن عملهم الرقابي يقتصر على متابعة مكان النفايات وانتشار المكبات العشوائية بين المساكن، مشيرًا إلى أن تدخلهم غير داعم في هذا الجانب.

وألقى اللوم على وزارة الزراعة بمتابعة هذه القضية، بصفتها المسؤولة الأولى عن ذلك.

وبحسب لبد، فإن عنصر الرصاص يضر بالجهاز العصبي واضطرابات وازرقاق في الشفتين، وبعض البكتيريا التي تسبب الإسهال والتقيؤ، وقد تؤدي إلى نزلات معوية والتهابات جلدية، مؤكدًا في الوقت ذاته عدم استقبال أي حالات مرضية بالسرطان نتيجة العصارة.

تباع بالأسواق

وبدت مقابلة المهندس شفيق العراوي، مدير عام التربة والري في وزارة الزراعة بغزة، صادمة، بعد أن كشف عن تصرفات فردية من بعض المزارعين، الذين يبيعون السوائل الراشحة على أنها "سماد عضوي"، "لكنها لم تصل لحد الظاهرة"، وفق قوله.

وأوضح العراوي، أن الاحتلال يمنع إدخال الأسمدة التي تحمل مادة النترات بشكل عام، أي النيتروجين بصورة نترات، لقطاع غزة منذ مدة لا تقل عن عشر سنوات، بزعم ازدواجية الاستخدام.

ولفت إلى أن مادة النترات لا يسمح الاحتلال بإدخالها للقطاع، مشيرًا إلى أنه يسمح بإدخال بعض المواد التي تحتوي على النيتروجين.

ونبّه إلى وجود أسمدة مركبة يتوافر فيها عناصر النيتروجين والفسفور والبوتاسيوم في صورة مركبة لا يمكن فصلها، مشيرًا إلى أنها متوفرة بالأصناف التالية (131313 أو 181818 أو 202020).

وبيّن أن المباحث والشرطة هما المسؤولتان عن مراقبة المزارعين الذين يستخدمون السوائل الراشحة كأسمدة.

وأوضح أن ما يجري هي حالات فردية، ولا تمتلك وزارته إحصائيات عليها، مشيرًا إلى أن وزارته لم ترصد أي حالات لمزارعين حتى اللحظة، وفق قوله.

ولفت إلى أن وزارته الجهة المسؤولة عن إعطاء التصاريح والسماح بإدخال الأسمدة الخاصة بالنباتات عن طريق المعابر الرسمية، مطالبًا منتجي الأسمدة داخل القطاع، بأن يكون تركيب العبوة مطابقًا للملصق الموجود خارجها.

تصعب رقابته

وطرق معدا التحقيق باب شرطة البلديات في القطاع، كونها جهة حكومية تُشرف وتنفذ مهام وسياسة وزارة الحكم المحلي ومجالس البلديات، للتعرف على طبيعة دورها في مراقبة مكب نفايات جحر الديك.

بدوره، أكد المقدم الحقوقي أيمن جندية نائب مدير عام شرطة البلديات، أن الشرطة تتابع مكبات النفايات وعمليات السرقة التي تجري بها.

وذكر جندية أن شرطة البلديات، هي إدارة متخصصة مركزية، ولها فروع في كل محافظات غزة، مشيرًا إلى وجود قرابة 25 بلدية وعشرات الأسواق في القطاع.

كما نفى علمه بوجود إحصائيات قد وردت للإدارة المركزية تتعلق بحالات سرقة لمكب جحر الديك، لافتًا في الوقت ذاته إلى أنها لا تستطيع مراقبة كل محفل للبلدية.

ونبّه إلى صعوبة وضع دورية كاملة لضبط الحالة الأمنية بشكل محكم عند مكب "جحر الديك"، بسبب قربه من السياج الفاصل مع الاحتلال.

وفي نهاية حديثه، تعهد بمتابعة مكب "جحر الديك"، من أجل وضع الحلول المناسبة بالتعاون مع جهاز الشرطة الفلسطينية.

إصلاح المكب

وبالعودة إلى أبو القمبز، ذكر أن المكب وصل إلى درجة صعبة قبل عام 2012، منوهًا إلى أنهم تمكنوا من إجراء تحسينات له في عام 2013، بعد حصولهم على تمويل لإعادة تأهيل المكب.

وأوضح أنه تم إجراء بعض التحسينات على مكب "جحر الديك"، تمثلت بتسوية الأرض وتغطيتها بطبقة واحدة -متر من الطين-، من ثم وضعت طبقة من "البولي أسيلين" المقوى، وهي طبقة تمنع نفاذ راشح النفايات من التغلغل إلى التربة، ووضعت "أنابيب" مثقبة لجمع الراشح وتجميعه في بركة بجوار المكب تتسع من 700 إلى 800 كوب.

وبحسب أبو القمبز، فإن البلدية لجأت لاستخدام نظام التبخير -وهو نظام قديم ونجاعته ضعيفة جدًا، بعد سحب المادة السائلة من البركة وإعادة ضخها على النفايات، للتخلص من الجزء الأكبر منها.

وكشف عن مشكلة كبيرة وخطيرة تواجه بركة "السوائل الراشحة"، أنها تطفو في فصل الشتاء على الأراضي المحيطة بالمكب، مؤكدًا أن حجمها غير مخصص لاستيعاب مياه الأمطار، "حيث تختلط الأمطار مع الراشح وتفيض، لكن تكون نسبة المادة أخف، ولا يوجد بديل أمامنا"، وفق أبو القمبز.

ونوه إلى أن بلديته تحتاج إلى توفير مساحات أراض لإعادة تصميم مكب طويل الأمد بالمستقبل، مؤكدًا ضرورة وجود جهة مانحة تتبنى تكاليفه لفترة طويلة.

في النهاية، يتوجب على الجهات المعنية بضرورة إعادة النظر في هيكلية "المكب" وإيجاد الحلول اللازمة، للحيلولة دون انتشار الأوبئة والأمراض في أجساد المواطنين، لاسيما مع قرب دخول فصل الشتاء الذي تكثر به السرقات.