"مرّت ليلة شديدة علينا.. القصف لم يتوقف لثانية" هذا جزء مما عاشه النازح زياد مطر (54 عامًا) وعائلته ومئات الآلاف بحي تل السلطان غرب بمحافظة رفح ليلة أول أمس بفعل القصف المدفعي "الإسرائيلي" والأحزمة النارية المتواصلة على غرب المحافظة واستمرار التوغل البري لدبابات جيش الاحتلال، فأضاء وميض الانفجارات السماء.
في الطريق الساحلي الواصل بين محافظتي رفح وخان يونس لم تتوقف حركة سيارات النزوح منذ صباح أمس، ترى حافلات تحمل أمتعة حملها النازحون على عجلٍي، وسيارات بحمولة أربعة ركاب، وعربات تجرها حيوانات تنقل النازحين وأمتعتهم، الكل كان يحاول النجاة، وفي أذانهم تجثم كوابيس لصور ومشاهد ومجازر ارتكبها الاحتلال بمحافظات أخرى، وليس بعيدًا عنهم مجزرة ارتكبها الاحتلال بمنطقة المواصي غرب محافظة رفح وفي اليوم ذاته ارتقى على إثرها أكثر من 20 شهيدًا وعشرات الإصابات.
ليلة عصيبة
كان مطر يجلس على رصيف الطريق بجوار سيارته التي تعطّلت، يراقب حركة سيارات النازحين بعيون مثقلة ونظرات متعبة، لا تعرف عائلته القادمة من محافظة شمال القطاع أين سترسي بها رحلة النزوح السادس، بعد أن نزحت إلى شمال القطاع ثم لمخيم النصيرات وسط القطاع، وانتقلت لمحافظة خان يونس وبعدها لرفح وها هي تغادر رفح بكل ما تحمله من وجع وقهر إلى وجهة لا تعلم مكانها.
يصف ما عاشه لـ "فلسطين أون لاين" بأنها من أصعب ليالي الحرب التي مرت عليه، قائلًا: "لم يتوقف القصف منذ مغرب يوم الإثنين حتى فجر الثلاثاء الماضيين. لا اعتقد أن هناك من استطاع النوم غرب محافظة رفح، فالأحزمة النارية لم تتوقف هناك عائلات بدأت منذ ساعات الفجر بالمغادرة ولم تتنظر شروق الشمس".
لم يستطع الرجل الذي احتمت ملامح وجهه تحت قبعة رمادية كان يرتديها كلون قميصه، أخذ كل أغراضه فحملت سفينة نزوحه الأكثر احتياجًا وتركي الباقي خلفه، لا يفارقه المشهد "ألقيت نصف الأغراض ولم أفعل ذلك لوحدي بل كل الناس فعلت ذلك، لأنني حرصت على الخروج بأسرع وقت من رفح، خشينا أن يحصل معنا كما حصل في شمال القطاع بدفن الناس أحياء بالمستشفيات".
ينظر إلى قوافل النازحين، بصوت ممزوج بالقهر وملامح متعبة من كثرة التنقل وبلهجة عامية يقول "الناس نزحت قسرًا، واحنا زيهم مش عارفين حالنا وين رايحين".
على مقربة منه، يسير محمد جودة وزوجته وهما يحملان عدة أكياس ملابس فقط مشيا على الأقدام بانتظار سيارة فارغة تنقلهم لوجهة نزوحهم التالية، استطاع الخروج بهم مع اشتداد القصف على رفح، ولم تكن لديه فرصة لنقل كل أمتعته.
تسلع صوته حرقة قلب وهو يغادر رفح قائلًا لـ "فلسطين أون لاين": "عشنا ليلة عصيبة جدًا، مشهد مغادرة البيت كان قاسيًا، والأصعب أنك لم تحصل على فرصة لنقل أمتعتك على وقع اشتداد القصف المتواصل، والحمد لله أننا نجونا".
على بعد عشرات الأمتار، ينقل وسام بعلوشة وعائلته الأغراض من حافلة متعطلة إلى حافلة أخرى، مشهد تنزيل الأغراض التي رتبت على عجل حسب مساحة صندوق الحافلة وحملها مرة أخرى كان صعبًا على العائلة التي لم يزرها النوم ليلة أمس، و"كانت الأمتعة والمستلزمات أثقل مما كانت عليه مع ساعات الصباح حينما نقلت بسرعة أمام ضربات صواريخ الاحتلال" هكذا يصف.
بملامح متعبة، وصوت مجهد بالكاد غادرت حروفه مخارجها من أثر الارهاق يروي لـ "فلسطين أون لاين" قصته: "نزحنا أكثر من مرة وتوجهنا لدير البلح ثم مخيم النصيرات، واستقر بنا الحال بمحافظة رفح، وها نحن نعيش تجربة نزوح جديدة".
ليلة لا وصف لها
لم يجد بعلوشة وصفًا لليلة مرعبة عاشها بمركز إيواء النازحين التابعة لـ "الأونروا" والمعروف باسم (البركسات) وهو يسمع صرخات الأطفال والنساء من شدة القصف، يطرق صداها أبواب ذاكرته: "نتحدث عن قصف بكل مكان. الخوف والرعب لا يمكن وصف، فلن تستطيع وصف تجربة خوف عاشها أي طفل فيهم، في منطقة المفترض أن جيش الاحتلال صنفها على أنها منطقة آمنة أو منطقة خدمات إنسانية".
وإن استطاع حمل كل الأمتعة التي يحتاجها النازحون في رحلة معاناة جديدة، لكنه يبحث عن "أمان" غير موجودة أمام استباحة الاحتلال لكل المناطق حتى تلك التي يصنفها على أنها مناطق خدمات إنسانية والتي تكثر فيها مجازر جيش الاحتلال، قائلا قبل أن يركب الحافلة مع عائلته: "اليوم نبحث عن مكان به ناس لنتواجد معهم، فكما يقولون: الموت مع الجماعة رحمة".
ورغم أن الشاب وليد رائد الحاج عاش ليال صعبة بمحافظة خان يونس، لكنه يعتبر الليلة التي عاشها بحي تل السلطان "الأصعب على الإطلاق"، يقول وهو يجلس على مقدمة حافلة صغيرة امتلأ بالمتعة ولم يتبق له مكان يجلس عليه: "لم أعش ساعات اصعب من التي عشتها، كان القصف شديدًا ومرعبًا جدًا، الخوف على الصغار جعلنا نغادر رفح".
أما الأربعيني "أبو مصطفى" الذي فضل عدم ذكر اسمه كاملًا، فعاش حياته لاجئًا بمخيم الشاطئ بمدينة غزة، اكتملت بتجربة نزوح قسري يعيشها منذ سبعة أشهر تجسد معاناة اللاجئين الفلسطينيين منذ النكبة الفلسطينية، فما كان يسمعه من قصص ومعاناة والده وجده عاشه بالألوان عام 2023-2024.
يقول بصوت مثقل بالوجع لـ "فلسطين أون لاين" وهو يركب بمقدمة سيارة ذات حمولة أربعة ركاب: "همومنا كبيرة وشردنا أكثر من مرة بدءً من التشرد من الشاطئ إلى مستشفى الشفاء، ثم لمنطقة دير البلح ومنطقة المغازي وها نحن نعود لمخيم النصيرات مرة أخرى".
حتى ساعات المساء لم تتوقف حركة سيارات النزوح، كثيرون لم يستطيعوا ايجاد منطقة يفرشون بها أغراضهم وخيامهم فناموا في العراء أو بداخل الحافلات، في منطقة المواصي غرب محافظة خان يونس المكتظة بمئات الآلاف من النازحين، ولم تتوقف حركة النزوح من محافظة رفح اليوم الأربعاء مع استمرار القصف الإسرائيلي.