فلسطين أون لاين

حين صدقتُ أن أبناء إسماعيل هنية يعيشون في فنادق قطر!

منذ أن انطلقت المعركة المعجزة في 7 أكتوبر بين حركة المقاومة الإسلامية حماس وجيش الاحتلال الإسرائيلي، صدّع رؤوسَنا كهلةُ منظمة التحرير الفلسطينية وهم يكررون كالببغاوات رواية الاحتلال بأن قادة حماس غادروا قطاع غزة هم وأبناؤهم وزوجاتهم، وتركوا أهالي القطاع يواجهون ماكينة الإجرام الإسرائيلي، وكم طالعتني اتهامات مباشرة لرئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية بأنه وأبناؤه جميعهم يعيشون في جناتٍ ونهَر في فنادق الدوحة وإسطنبول وطهران، وكم نشروا صوراً لهنية وأبنائه مصحوبة بصور أخرى لشهداء غزة، في محاولة لتأليب الشارع، لدرجة أنني صدّقت الرواية ولم أعد أجرؤ حتى على نكرانها، إلى أنْ فاجأني كما فاجأ الجميع نبأ استشهاد 3 من أبناء أبي العبد وعدد آخر من أحفاده، لترتفع حصيلة الشهداء من عائلة هنية إلى أكثر من 60، كحال بقية العائلات المفجوعة في قطاع غزة، والتي مُسحت من سجلات القيد المدني بعدما أجهزت عليهم طائرات الاحتلال ودباباته التي دخلت إلى القطاع وعليها حفنةٌ ممن يُحسَبون ظلماً وزوراً على الشعب الفلسطيني، فيما هم بالحقيقة أقرب إلى الاحتلال من حبل الوريد.

تُرى كيف سوف يحفظ أولئك ماء وجوههم بعد أن ملؤوا جدار الفيسبوك سابقاً بمنشورات هاجمت حماس واتهمت قادتها بالخروج من القطاع والتخلي عن روح المقاومة؟ وكيف لهم أن ينبسوا ببنت شفة أمام من جالسوهم يوماً أو خاطبوهم عبر منصات التواصل الاجتماعي وقالوا لهم: إذا كان هنية حريصاً على دماء الشعب الفلسطيني في غزة، فلماذا أخرج كل آل هنية باتجاه تركيا وقطر؟ ولماذا لا يكون هو وأبناؤه ملتحمين مع أهالي القطاع في معركة حمساوية بامتياز لا وجود فيها لملوثات أخرى؟ وإذا كانت معركة طوفان الأقصى من هندسة حماس فكيف لأبناء حماس أنفسهم الفرار خارج القطاع ؟ 

كثيرةٌ هي الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات عاجلة في هذا المقام، إلّا أنك عزيزي القارئ لن تجد مجيباً واحداً عليها، لأنهم سوف يتلاشون جميعاً أمام الحقيقة المرة التي صدمتهم كضربات الكهرباء في أحدث المستشفيات، ولكن الفرق اليتيم بين الحالتين، هو أن ضربات الكهرباء تُنعش المريض، بينما ضربات حماس تقتل أصحاب التفكير السطحي الذين تخندقوا مع الاحتلال في حفرة واحدة شبيهة بتلك الحفر التي كنا نحفرها "بالفأس والكريك" في جيش التحرير الفلسطيني حينما ساقونا إليه تحت شعار "مصنع الأبطال"، في حين أننا تسرّحنا منه من دون أسنان.. 

إن توقيت الاغتيال هو بحد ذاته رسالة مكتملة الطوابع، ولا ينقصها سوى أن تستلمها وتقرأها، فهو يأتي بعد انسحاب جيش الاحتلال من خان يونس جنوب القطاع، بعد يوم من عملية نوعية لكتائب القسام أجهزت خلالها على 14 جندياً إسرائيلياً اعترف الاحتلال بعدد منهم، لتبدأ حماس بعدها باستعادة السيطرة، ولا أقصد هنا السيطرة العسكرية فحسب، بل المدنية كذلك، فقد كتب المحلل العسكري الإسرائيلي يوآف زيتون في صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية في أول أيام عيد الفطر: "بات من الصعب تحقيق حتى أكثر الأهداف تواضعاً في الحرب على غزة، وهو إنهاء الحكم المدني لحماس وليس العسكري"، وبهذه الكلمات البيّنات زخرف المحلل مقاله ليلخص لنا حكاية أكثر من نصف سنة من مواجهات غير متكافئة القوى بين المقاومة الفلسطينية المعجزة، وجيش مدجج مدعوم عسكرياً ولوجستياً واستخباراتياً يواجه كتائب القسام التي قال عنها المحلل ذاته إنها بدأت تستعيد السيطرة على خان يونس بعد انسحاب الغزاة، كما أنها ووفق المحلل، بدأت تضبط النظام والأسعار في شمال القطاع، وهو ما تسبب بانخفاض طفيف في أسعار المواد بعد أن استعادت المبادرة، مضيفاً أنه لن يتم القضاء على هذه الحركة قبل عام 2027 في أحسن الظروف والأحوال.

وبمقاربة سريعة جداً بين أهداف الاحتلال بُعيد 7 أكتوبر وأهدافه اليوم، تجد أنّ هبوطاً مفاجئاً أصاب سقف التوقعات، فمن القضاء على حماس إلى الاكتفاء بغيابها مدنياً عن مؤسسات القطاع، ومن إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين خاوة، إلى إطلاق سراحهم بالمفاوضات وتحت شروط حماس مع "بوسة يد"، ولم يكن ليحدث ذلك الهبوط لولا دهاء المقاومة عسكرياً وسياسياً، وحسن استخدامها لأوراق الضغط العسكري والسياسي، وماكينتها الإعلامية التي كانت ناجعة إلى حدّ بعيد.

ولأن الاحتلال يعاني كما يعاني أذنابه من أبناء جلدتنا، فقد آثر أن يضغط على المكتب السياسي للحركة لعلها تقبل بشروطه في مفاوضات الهدنة وصفقة تبادل الأسرى، فتخرج تل أبيب بصورة المنتصر أمام جمهورها الذي بدأ يحاصرها في قصور الوزراء والمسؤولين، وتحولت الدولة "الأكثر ديمقراطية" في العالم إلى ميليشيات مجرمة تعيث فساداً وإجراماً في قطاع غزة، وتستقوي على المدنيين في حين أنها مجرد مثلث أحمر أو دائرة حمراء أمام كتائب القسام، وقد كتبتُ في مقالي السابق في هذا المنبر عن تشكيلات جيش الاحتلال التي بدأت ترهقه و تحوله إلى جيش من المأزومين الذين لا طاقة لهم بمواصلة معركة مفتوحة لا سقف للأهداف فيها، حتى إن الإدارة الأمريكية بدأت تطالب مسؤولي الاحتلال بأهداف واضحة بعد أن عاينوا عشوائية غير مسبوقة في إدارة الحرب يشرف عليها كوكبة من الطغاة الذين حوّلوا القطاع إلى أكثر منطقة ملتهبة في العالم.

ولأن إسماعيل هنية وعى الرسالة جيداً، فقد رد عليها برسالة أخرى مباشرةً، دون أن يحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين، حينما تصدى لنبأ استشهاد أبنائه وأحفاده بثباتٍ راسخ، وكان بخيلاً جداً في ضيافته للعدو الإسرائيلي، لدرجة أنه لم يقدّم له لو مجرد دمعة حبيسة، أو لحظة انكسار، أو رجفة جفن، أو أنينٍ طبيعيٍّ لأبٍ مكلوم بأبنائه وأحفاده، بل كان متوازناً إلى أبعد الحدود حينما اكتفى بتعزية نفسه بالقول "الله يسهل عليهم"، ورفض أن يقطع زيارته لجرحى غزة الراقدين في مستشفيات الدوحة، بل واصلَ الزيارة وكأن شيئاً لم يكن، وكأنه يريد أن يقول للاحتلال: لن تأخذ منا لو مجرد موقف..

تصريحات هنية لقناة الجزيرة بعد نبأ استشهاد أبنائه كانت هي الجزء الثاني من رسالته للاحتلال، حينما قال إن "ما عجز عنه الاحتلال في الميدان لن يأخذه لا بالمفاوضات ولا بأي شيء آخر، ودماء أبنائي ليست أغلى من دماء شهداء قطاع غزة"، ولعلّ الاحتلال سوف يعي ذلك جيداً كما وعى هنية رسالة الاحتلال جيداً.

يبقى القول الفصل في نهاية هذا المقال، وهو أنْ تدخل عزيزي القارئ إلى الإنترنت وتقرأ كيف يحيا أبناء وبنات أولئك الذين اتهموا قادة حماس بأبنائهم، لتصل إلى الحقيقة البيّنة التي تقول إنّ بَوْناً شاسعاً بين من يقدّم أبناءه لأجل الوطن، وبين من يقدّم الوطن لأجل أبنائه.