فلسطين أون لاين

الحرب على غزة.. وسائل إعلام عربية بحاجة إلى "تأديب" قبل الغربية

لا يختلف عاقلان أن لكل وسيلة إعلام خطاً تحريرياً خاصاً بها، وهذا مألوف حتى في وكالات الأنباء العالمية، فلكل وكالة مصطلحات وتوجهات خاصة بها، لكنّ الشيء المشترك بينها جميعاً هو أبجديات نقل الخبر التي لا يجوز المساس بها، مثل التوازن وعدم الاجتزاء، واستحضار الجزء الآخر واستكمال الخبر، وفي حال تعذر استحضار الطرف الآخر نقرأ مثلاً أن الموقع الفلاني أو الوكالة الفلانية حاولت التواصل مع وزارة الخارجية الفلانية للتعليق على الخبر لكنها رفضت، أو لم يتسنّ لمراسلنا الحصول على تعليق من الشخصية الفلانية، أو لم يصدر تعقيب فوري من الحركة الفلانية حتى إعداد هذا الخبر.

إلا أنّ مقاربة سريعة بين بعض وسائل الإعلام العربية والغربية في طريقة تعاملها مع مجريات الأحداث في قطاع غزة وتساوقها مع رواية الاحتلال، جعلتني أشعر بالندم أنني تجاوزت حدود المنطق لمّا انتقدت وكالة الأنباء الهولندية الرسمية NOS، في طريقة تعاطيها مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وترويجها لرواية الاحتلال، خاصةً فيما يتعلق بالغارات الإسرائيلية التي أوقعت شهداء وجرحى كثيرين، فقد تعاملت الوكالة الهولندية على سبيل المثال، مع القصف الإسرائيلي على مخيم جباليا شمال قطاع غزة نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول، والذي أوقع ألف شهيد وجريح، من خلال العنوان التالي: قتلى وجرحى كثيرون بقصف إسرائيلي على مخيم تابع لحماس وفق مصادر إسرائيلية، و قِس على ذلك الكثير.

وقد أدت طريقة تعاطي الإعلام الغربي مع الحرب على غزة إلى حالة إدانة واسعة النطاق، تخللها تأديبٌ هنا وهناك من قبل نشطاء ودبلوماسيين فلسطينيين، كأمين عام المبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، والسفير الفلسطيني في لندن حسام زملط اللذين تصديا بكل حزم لأكثر من وسيلة إعلام غربية تبنّت رواية الاحتلال، وقدّمت الخبر للمتابعين مدسوساً بالسم، لضرب شعبية القضية الفلسطينية التي عظم شأنها وذاع صيتُها بين البلدان، بعد معركة طوفان الأقصى إحدى أهم محطات المواجهة مع الاحتلال، إلا أنّ وسائل إعلام عربية تفوقت بمكرها على كل تلك الوسائل، من أجل ضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية، والإفتراء عليها بأساليب خبيثة.

ومن جملة تلك الأساليب اجتزاء الخبر: ويُعتبر هذا النوع واحداً من الأدلة على عدم الثقة بالنفس ومحاولة صبيانية لتضليل القارئ، وخروجاً عن المهنية، فقد أوردت على سبيل المثال، إحدى الصحف العربية، في شهر مارس/آذار الماضي، وفي خضم المفاوضات غير المباشرة بين الاحتلال وحركة المقاومة الإسلامية حماس في الدوحة، خبراً عنوانه العريض: قطر تلوّح بالقطيعة مع حماس بسبب إفشال مفاوضات الهدنة، وفي هذا العنوان 3 معلومات قُدّمت للقارئ من حيث لا يحتسب، الأولى: حماس أفشلت مفاوضات التهدئة، والثانية: تبرئة الاحتلال تماماً من فشل المفاوضات، والثالثة: العلاقة بين حماس والدوحة وصلت للشيطان الرجيم، والقطيعة على الأبواب، وفي مقدمة الخبر ذكرت الصحيفة أن الدوحة استاءت من تعنّت حماس وتمسكها بشروطها لإبرام صفقة تبادل الأسرى، وهددت قادتها بالطرد إذا فشلوا في إقناع قادة الحركة في غزة بالموافقة على صفقة الهدنة، والجميل في الصحيفة أنها نسبت الخبر لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، إلّا أنه وبالعودة إلى المصدر الحقيقي للخبر في الصحيفة الأمريكية، تبيّن صدق النبأ، نعم، لكنّ الجزء الثاني من الخبر وهو الأهم، حذفته الصحيفة العربية تماماً، ولم تقدّمه للقُرّاء، وهو أن "وول ستريت جورنال" استحضرت رد حماس، وهذا بديهي جداً لمن يفقهون أصول العمل الصحفي، أمّا المُتَسِلبِطون على المهنة وأصحاب الضمائر المأجورة فإن صلاحياتهم واسعة جداً في الحذف والشطب، وبالتالي قالت الصحيفة الأمريكية إن عضو المكتب السياسي لحركة حماس حسام بدران، نفى مزاعم توتر العلاقة مع قطر، وقدمت المادة للقارئ بشكل متوازن وكامل، وتركت له حرية إطلاق الأحكام كما يريد، وكأنها تقول له: مصادرنا تقول إن هناك توتراً بين الطرفين وحماس نفت، لكنها لم تضلله وتستخف بعقله كما فعلت تلك العربية التي اعتبرت قُرّاءها قطيعاً من الجهلة، فحذفت الجزء الثاني وهو الأهم، واستحضرت الجزء الأول الذي لا طائل منه على الإطلاق، كما هو الحال لو قرأنا في سورة الماعون: ويلٌ للمصلّين، وكفى..

ثم إنني أصبحت أترحم على أسلوب اجتزاء الأخبار لمّا رأيت أسلوباً آخر سخيفاً جداً، ففي حالات اجتزاء الأخبار يكون هناك مصدر للخبر في أدنى التقديرات، لكنّ الحالة الثانية شطبت ورقة التوت الأخيرة، وأصبحت تقدّم موادها من دون أي مصدر على الإطلاق.

ذات الصحيفة، وفي معرض تغطيتها المهنية لزيارة وفد حماس الأخيرة إلى إيران، قالت للقارئ الدرويش: هنية يستنجد بإيران للضغط على السنوار بحكم العلاقة الوثيقة بينه وبين طهران، ولم تنسب الخبر إلى أي مصدر على الإطلاق، فما أجمل وما أحلى وما أبهى أيام اجتزاء الخبر! ولله درّ تلك الأيام الخوالي! وطوبى وزُلفى لاجتزاء الخبر أمام عدم نسب الخبر إلى أي مصدر على الإطلاق، ولكَ أن تدخل إلى أي وسيلة إعلام عزيزي القارئ، لتجد أن كل الأخبار فيها منسوبة إلى مصدرها، أو إلى المراسل ذاته، إلّا هؤلاء الجماعة ومن لف لفيفهم وسار في ركبهم، فهم مستعدون للتخلي عن كل أدبيات المهنة مقابل الإساءة للمقاومة الفلسطينية والتساوق مع رواية الاحتلال، وهم مستعدون كذلك للهبوط إلى القيعان ولا ضير في ذلك فيما لو كانت النتيجة خبراً مُضِللاً يحرف البوصلة، تماماً كما فعلت إحدى القنوات العربية التي علقت على زيارة وفد الحركة لطهران، بأنهم دخلوا حفاة على المرشد الإيراني علي خامنئي، وأوردت صوراً ملتقطة، عليها إشارات هندسية حمراء ممهورة على أقدام الوفد لإثبات صحة روايتها، إلّا أن آلاف التعليقات عبر موقعها الرسمي على فيسبوك انهالت عليها بالتوبيخ والاستهزاء بمثل هكذا نوع من الأخبار السخيفة في وقت عصيب جداً على الشعب الفلسطيني، وقد لفت انتباهي تعليقان اثنان من جملة تلك التعليقات، أما أحدهما فقال صاحبه: "لا يهتم بمواضع الأقدام إلّا ماسح الأحذية"، فيما قال الآخر: "خبر عاجل: أقدام حماس على قناة ال… ".

وما ورد أعلاه هو جزء يسير جداً جداً من حملة إعلامية ممنهجة تقودها وسائل إعلام عربية، بحاجة إلى تأديب، ولذلك لا قدرةَ لي من اليوم فصاعداً على انتقاد الإعلام الغربي في طريقة تعاطيه مع مجريات الأحداث في فلسطين المحتلة غزةً والضفة، أو في تلاعبه على براءة القارئ، أو في ممارسته دور المحامي عن الاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي تغص فيه وسائل إعلام عربية بمحاولات أدهى وأمر، لكنّ الفرق بين الحالتين هو أنّ الإعلام العالمي له جمهوره ومتابعوه، ولهذا يُخشَى من مساعيه، أما الآخر "الحزين" فهو ذو جمهور ضئيل، ومع ذلك لا نريد لهذا الجمهور أن تضل به السبيل، ويصله الخبر منقوصاً، فربما يكون الخبر صحيحاً بالتمام والكمال، لكنّ التلاعب والتساوق مع الاحتلال إدمانٌ عند ضعاف النفوس كإدمان المخدرات، بل هو أشدّ وطأة، لأن هاوي المخدرات قد يبرأ يوماً ما، أما هاوي الذل والعمالة لا يبرأ أبد الدهر..

وليست مجريات الأحداث في غزة هي الحدث اليتيم الذي تم التلاعب فيه، فقد سبقتها أحداث كثيرة، تعاملت معها وسائل إعلام عربية بطريقة لا وجود للمهنية فيها، فقد شن إعلام ما تُسمّى السلطة الفلسطينية هجوماً حاداً على مؤتمر فلسطينيي أوروبا العشرين الذي انعقد في مدينة مالمو السويد في شهر مايو/أيار  2023، واعتبروه مؤتمراً خارجاً عن الإجماع الوطني، رغم أنهم كانوا جزءاً من النسخ السابقة بأكملها وشاركوا فيها بأعلى المستويات وبتوجيه شخصي من محمود عباس، إلا أنّ عفريتاً نزل بشكل مفاجئ على النسخة العشرين فجعلها غير وطنية، ما دفع وطنيي منظمة التحرير الفلسطينية إلى معاداة المؤتمر، وتسليط إعلامهم للتحريض على المؤتمر وبمستويات عليا وصلت إلى مكتب إعلام الحكومة ووكالة أنباء فلسطين الرسمية، للحشد ضد المؤتمر والتنادي لمقاطعته، فكانت نتيجة كل تلك الدعوات أنْ حضر الآلاف من فلسطينيي أوروبا بمختلف توجهاتهم السياسية، وكانت النسخة العشرون الأكثر حضوراً وتنظيماً، فيما ولّت تلك الصيحات إلى القيعان ولم تجد هناك إلّا خيبتها التي عادت عليها بالوبال