كنت أتابعُ قناة الجزيرة أمسِ وهي تبثّ مشاهدَ من كمين محكم أعدته المقاومة واستهدفت به جنود الاحتلال، في منطقة الزنة بخان يونس، حيث تميّز بالدقة والاستهداف المباشر والتنوع في شكل المواجهة ما بين الرصاص والقذائف والعبوات، وما بين المستهدَف من حيث المشاة والآليات.
تنوّع ودقّة
وأردت أن أسجّل بعض الملاحظات على ما تم بثّه ودلالاتها:
أولًا: الهدوء والإعداد الدقيق والمتقن، فالمقاومة كانت تعمل وتخطط لهدفها بدقة وأعصاب هادئة بعيدة عن الانفعال، وهو تخطيط حرب استنزاف؛ لإدراك المقاومة أنّ هذه الحرب سوف تطول، ونهايتها ليست قريبة، وهي الرسالة التي اختتم بها قائد المجموعة الفيديو بقوله:" إنه ما زال في جعبة القسام الكثير".
ثانيًا: لم يخلُ إبداع المقاومة من الرمزيات، حيث إن الكتاب الذي كان حاضرًا في مشهد الإعداد هو " رسائل من القرآن الكريم "، والمؤشر الذي يستخدمه القائد هو السواك برمزيّته الدينية، خاصة في شهر رمضان المبارك، ولعل هذا يتزامن بعد أيام من حملة " الوعد المفعول" لتحفيظ القرآن في شمال القطاع، فالقرآن هو المرشد والدليل، وعنوان الجهاد، وعنوان الصبر والصمود والثبات، فالقرآن هو المنهج وأنه والبندقية صنوان في هذه المعركة.
ثالثًا: التنوع والوضوح: ربما هذا الكمين هو الأكثر وضوحًا منذ بدء الحرب، والأكثر شمولًا في المشاهد ونوعية السلاح وأنماط الاستهداف، والأكثر اكتمالًا من حيث الصورة، بشكل يوضح مدى الدقة واكتمال الصورة ووضوح الهدف والثبات والأعصاب الفولاذية التي تمتع بها المقاوم، وأنه صاحب الكلمة الفصل منذ اللحظة الأولى إلى الأخيرة، يضرب ويواصل الضرب حتى يحقق أهدافه كاملة.
جيش مهزوز
رابعًا: سلوك الاحتلال في الكمين: لم يطلق جنود الاحتلال طلقة واحدة، وكان سلوكهم الجماعي بالهرب والنجاة بأنفسهم، كما هو دليل أن ما كان يبثّه الاحتلال من مشاهد لجنوده يطلقون النار، إنما هي مشاهد تمثيلية غير حقيقية لمناطق فارغة، وأنهم عاجزون في المواجهة الحقيقية مع المقاومة.
وبعيدًا عن التحليل العسكري الذي يمكن أن يقال فيه الكثير حول هذا الكمين وتقييمه، إلا أنني وجدت الكثير من المماثلة بين الرسائل أعلاه، ودولة الاحتلال، ككل فهي " دولة كاملة في كمين "، دولة عاجزة عن مواجهة المقاومة، وسقطت أمامها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكانت صورة جنودها إما قتيلًا أو هاربًا أو جريحًا، وسقطت مواقعها الواحد تلو الآخر أمام مقاومة خططت جيدًا، وأقبل مقاتلوها رابطي الجأش مقاديم، يستخدمون أنماطًا مختلفة وبسيطة من الأسلحة، وقد عجز جنود الاحتلال عن مجابهتهم كالرجال.
وأراد قادة دولة الاحتلال تغيير هذه الصورة الجديدة التي صنعتها المقاومة، فاستعانت بدول كبرى على رأسها الولايات المتحدة الأميركيّة وبعض الدول الغربية ببوارجها وحاملات طائراتها، وجنّدت مئات الآلاف، واستخدمت طائرات "إف 35″، وأحدث الآليات والمدرّعات، وقتلت 33 ألفًا من المدنيين، وهدمت المنازل على مَن فيها، ودمرت البنى التحتية؛ كي تعيد الاعتبار لصورتها وجنودها وجيشها الذي لا يقهر.
انهيار الردع
ولكن من جديد خططت المقاومة ونفّذت وأعادت صورة المقاتل الفلسطيني المقبل، وصورة الجندي الصهيوني الذي يجرّه زميله قتيلًا، وصورة جنود الاحتلال يفرّون من موت إلى موت، ومن كمين إلى كمين، والأرض تتفجر من تحتهم، لم ينجح القتل والتدمير في الردع، وبقيت المقاومة ثابتة عصية على كل أشكال وأنماط الاقتلاع بل تسجل النقاط والإنجاز رغم كل ما أصاب غزة وقطاعها.
نعم المماثلة قائمة، دولة سنّت قانونَ يهوديتها في الأعوام الأخيرة؛ لتعلن أنها دولة قائمة على أساس الدين وعنوانها التوراة، فإذا في هذه الحرب رجال التوراة يهربون من التجنيد، وتضطر أن تسن قانونًا جديدًا لتجنيدهم، فيكاد ينفرط عقدها وتختلف قلوب رجالها.
في المقابل ترفع المقاومة القرآن عنوانًا في كل معاركها وحربها فكانت صفوة الحفاظ قبل المعركة، وكانت همم القرآن الوعد المفعول في أثنائها.
دولة خرجت للحرب بدون أهداف معقولة واضحة إلا الحفاظ على كراسيّ قادتها الذين بدوا عاجزين عن القيام بشيء إلا القتل والإبادة الجماعية والتدمير الشامل، مستخدمين ما جاد به الأميركي من قنابل وأدوات موت، فيما الفلسطيني يخرج من تحت الأنقاض ومن بين الركام فاقدًا أهله وذويه، وكل ما يملك، لكنه لم يفقد في لحظة من اللحظات هدفه وأمله بالتحرير والنصر، والعودة ليس إلى بيته في غزة فقط، ولكن إلى بيته في يافا والكرمل وحيفا وصفد.
نصر قريب
أخيرًا؛ في ختام هذه الكلمات، أهم ما لفت نظري أن الأرض كانت تقاتل مع أصحابها، فقد رأينا رشاقة المقاومين وسرعة تحركهم بين الأنقاض ووسط الركام، فهم على دراية بالمنطقة التي وُلدوا فيها، فكان الواحد منهم يتقافز كالفهد المتحفز للانقضاض على طريدته، فالأرض أرضه والمكان مكانه، يحفظه عن ظهر قلب، يشعر فيه بالطمأنينة، وإن كان حوله عشرات الجنود والآليات.
أما جنود الاحتلال فكانوا يسيرون ببطء الخائف من كل شيء من الحجر والشجر والحطام الذي دمرته أيديهم وآلتهم العسكرية، ويعرفون أن كل ما حولهم يكنّ لهم العداء، ويحمل لهم نذر الموت، فهم طارئون في هذه الأرض، يعرفون أن مصيرهم إما قتيلًا أو جريحًا أو هاربًا هنا في غزة أو هناك، حيث كل بقعة مغتصبة من أرض فلسطين لها أصحاب يعرفون دروبها ومسالكها يعشقون ويعشقهم ترابها، أقسموا إما العيش أحرارًا فوقه أو كرامًا تحته.
وهكذا هي دولة الاحتلال طارئة، خائفة تدرك أنها قامت على أنقاض شعب حي وحضارة كامنة تملك كل مقومات العودة والانتصار، وأبناء هذه الأرض يروون ثمرة العودة بدمائهم؛ لجني نصر قد اقترب أوانه وحصاده.