في صباح 31 من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وفي خضم الحرب الإسرائيلية الطاحنة على قطاع غزة، كان عدد من القادة الدينيين والسياسيين الأميركيين يجتمعون في متحف الكتاب المقدس في العاصمة واشنطن، ضمن برنامج بدأ تنفيذه سنويًا ابتداءً من عام 2022 في هذا المكان باسم (التجمع الوطني للصلاة والتوبة)، تنفذه مؤسستان أميركيتان هما (مجلس بحوث الأسرة) و(وبل فيرسد) اللتان يديرهما عدد من أتباع التيار المسيحي اليميني المتشدد في الولايات المتحدة.
ومن أهم الشخصيات التي حضرت هذا البرنامج كان رئيس مجلس النواب الأميركي الجمهوري مايك جونسون المعروف بانتمائه للتيار اليميني المحافظ. إضافةً إلى عدد من أعضاء مجلس النواب، ومجلس الشيوخ الأميركي من المحافظين الجدد المنتمين للحزب الجمهوري كذلك.
هذا التجمع السنوي بدأ حديثًا مع تصاعد قوة التيار اليميني في الولايات المتحدة، وخاصة في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لكن اللافت في هذا التجمع هذا العام أنه خصص النصف الثاني من البرنامج الممتد لخمس ساعات لصالح إسرائيل، حيث تم تقديم عدد من الفقرات اللافتة للنظر، فقد قدم البرنامجُ ضيفَ شرفٍ غير مألوف، وهو الحاخام يتسحاق (تساحي) مامو، وهو حاخام متطرف يسكن في مستوطنة عوفرا بالضفة الغربية، ويعد أحد أهم المسؤولين عن محاولات شراء وتسريب العقارات في القدس، ولا سيما في حي الشيخ جراح، حيث يعتبر مامو أحد عرابي طرد سكان الحي منه بالقوة.
وللمفارقة، فإن مامو تم تقديمه خلال البرنامج باعتباره أحد المسؤولين عن رعاية البقرات الحمراء التي يتم إعدادها لإجراء عملية الحرق والتطهير الدينية التي يعول عليها تيار الصهيونية الدينية في إسرائيل لإلغاء فتوى منع اليهود من دخول المسجد الأقصى المبارك، ومعه صديقه الأميركي بايرون ستينسون، وهو مسيحي أنجليكاني متطرف من ولاية تكساس الأميركية، وهذا الشخص هو الذي كان مصدر البقرات الحمراء التي نقلت إلى إسرائيل قبل عامٍ ونصفٍ.
وتبين خلال البرنامج أن هذين الشخصين هما المسؤولان المباشران عن عملية إنتاج خمس بقرات حمراء بالهندسة الجينية واستقدامها إلى إسرائيل؛ تمهيدًا لذبحها وحرقها وإجراء طقوس التطهير الدينية التي تتيح لتيار الصهيونية الدينية فتح الباب أمام إلغاء فتوى الحاخامية الكبرى لإسرائيل بمنع اليهود من دخول المسجد الأقصى المبارك، وفتح الباب على مصراعيه بالتالي لاقتحام عشرات الآلاف للمسجد.
على مدار 35 دقيقة، قدم الحاخام مامو مرافعةً طويلةً حول الإجراءات التي قام بها هو وصديقه المسيحي الأنجليكاني بالتعاون مع عدد من المسؤولين الجمهوريين في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ودول أخرى لتجهيز الأدوات والمواد والاحتياجات اللازمة؛ لإجراء أعمال التطهير وبناء المعبد الثالث مكان قبة الصخرة المشرفة.
والرجل الذي يشغل الآن منصب القنصل الفخري لدولة بابوا غينيا الجديدة القريبة من إندونيسيا، كان قد لعب دورًا مركزيًا في إقناع هذه الدولة بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، بل وفتح سفارةٍ لها في القدس في الخامس من سبتمبر/ أيلول عام 2023، أي قبل شهر واحد فقط من إطلاق عملية "طوفان الأقصى" والحرب الحالية على غزة.
في ذلك الوقت لم أستوعب سبب الحماس الذي كان لدى بابوا غينيا الجديدة لفتح سفارة لها في القدس هكذا دون مقدمات، حتى استمعت لخطاب مامو الذي كشف أن جيمس مارابي رئيس وزراء بابوا غينيا الجديدة يعتبر من المسيحيين الأنجليكانيين المتشددين، وأن أعضاء حكومة هذا البلد يعتقدون أن بابوا غينيا الجديدة كانت مصدر الذهب الذي غطى معبد سليمان الأول المذكور في التوراة!
وبناء على ذلك فإنهم وقعوا اتفاقًا مع شركات يبدو أنها إسرائيلية، يتم من خلالها التنقيب عن الذهب في بابوا غينيا الجديدة على أن يخصص ثلث الحصص المستخلصة لصالح الحكومة، والثلث لصالح الشركة المنقبة، ويخصص الثلث لصالح بناء المعبد الثالث في القدس.
إضافةً إلى هذا الحاخام المتطرف، فإن البرنامج المذكور استضاف ضيف الشرف التالي، وهو عضو الكنيست أوهاد تال، وهو – للمفارقة – عضو في الكنيست عن حزب الصهيونية الدينية الذي يرأسه بتسلئيل سموتريتش، ويسكن في مستوطنة إفرات في الضفة الغربية كذلك.
وحضر هذا الشخص في هذا البرنامج خصيصَى ليكرر كافة الكذبات التي نشرتها إسرائيل منذ بداية الحرب حول الاغتصاب، وإحراق الناس، وقطع رؤوس الأطفال، وغير ذلك، والتي تبين كذبها بالكامل.
وكذلك خصصت كلمة لدومينيك بيرمان، وهي شخصية إسرائيلية أميركية جدلية تدعو إلى ما تسميه "عودة المسيحية إلى أصولها اليهودية" مع زوجها الحاخام باروخ بيرمان، وهذه الشخصية تدعو علانية لضرورة تطهير الأرض بين النهر والبحر من الفلسطينيين وجعلها يهوديةً بالكامل.
والعجيب أنها دعت الساسة الأميركيين خلال هذا البرنامج إلى تحقيق "الوعد الإلهي" بتسليم الأرض من الفرات حتى النيل إلى اليهود، بل ونفخت البوق اليهودي بالرغم من أن البرنامج يعد مسيحيًا بالدرجة الأولى.
ما يلفت النظر في هذا البرنامج ليس مجرد وجود هذه الشخصيات الإسرائيلية المتشددة التي تتبع جميعها لتيار الصهيونية الدينية في هذا البرنامج باعتبارهم ضيوف الشرف وفتح الباب واسعًا لهم لتقديم رؤيتهم الدينية التي يبنون عليها قراراتهم وحركتهم السياسية المليئة بالنبوءات الدينية حول نهاية العالم ومجيء المسيح، وغير ذلك، وإنما كون مثل هذا البرنامج المتخم بالتعصب الديني يتم برعاية كاملة من الكونغرس الأميركي الذي يسيطر عليه الجمهوريون حاليًا.
فحضور شخصيات بحجم رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون، وهو الرجل الثالث في سُلم الحكم حسب الدستور الأميركي بعد الرئيس ونائبه، برفقة أكثر من عشرين من نواب وأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين في الكونغرس الأميركي، ومشاركتهم في الصلاة بكلمةٍ لكل واحد منهم، يعطي إشارةً واضحةً إلى طبيعة الشخصيات التي توجد اليوم على رأس سدة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية وتوجهاتها.
ففي الوقت الذي يرى فيه العالم أن تيار الصهيونية الدينية الخَلاصي في إسرائيل بات يشكل خطرًا كبيرًا على العالم كله باعتباره ينظِّر للحرب المقدسة ونهاية العالم وقدوم المسيح، ويرسم سياسات حكومة نتنياهو التي يحكم سيطرته عليها بناءً على هذه التصورات والأساطير الدينية، فإن هذه الشخصيات التي تتبوأ عددًا من أهم المناصب التي ترسم السياسة الخارجية الأميركية تَعتبر تيار الصهيونية الدينية الإسرائيلي حليفًا لها في الحقيقة.
وهذا يمثل تحولًا مهمًا في السياسة العامة للحزب الجمهوري الأميركي الذي بات فيما يبدو تجمعًا للمتعصبين دينيًا من أقصى اليمين إلى حد كبير.
لا ننسى في هذا الصدد أن تيار الصهيونية الدينية في إسرائيل يعد امتدادًا لتيار الحاخام المتطرف مائير كاهانا الذي صنفته الولايات المتحدة الأميركية تنظيمًا إرهابيًا عام 1997 في عهد إدارة كلينتون الديمقراطية، التي كانت من خلال ذلك تحاول الحفاظ على حليفتها إسرائيل من هذا التيار وآثاره التخريبية على إسرائيل نفسها، وذلك بعد ثلاث سنوات من تنفيذ أحد أتباعه، وهو باروخ غولدشتاين، مجزرة المسجد الإبراهيمي في الخليل.
لتأتي حكومة بايدن الديمقراطية – للمفارقة – وترفع هذا التيار من لوائح الإرهاب الأميركية في شهر مايو/أيار عام 2022؛ بزعم مرور فترة طويلة من الهدوء وعدم لجوء أتباع هذا التيار إلى العنف.
في نظري، لا يمكن أن تصل علاقات تيارٍ كانَ – إلى ما قبل عامين فقط – مصنفًا على لوائح الإرهاب إلى هذه الدرجة من القوة والتحالف العميق مع تيار المحافظين الجدد المتدين الأميركي خلال سنتين فقط، إذ لابد من أن الروابط بين تيار المحافظين الجدد المتدين في الولايات المتحدة والتيار الكاهاني – الذي أنتج الصهيونية الدينية في إسرائيل بدوره – تعود إلى فتراتٍ أقدم من هذه، ولم تكن متأثرةً بتصنيف هذا التيار على لوائح الإرهاب الأميركية.
وهذا الأمر يعطي مؤشرات خطيرة حول التحولات التي تجري لدى الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية.
إن التعصب الديني والجري وراء النبوءات الخَلاصية التي تميز تيار الصهيونية الدينية الحاكم فعليًا في إسرائيل قد تغلغل -الآن كما يبدو- في أروقة الكونغرس الأميركي، وإن لم تتمكن هذه النبوءات الخلاصية بعدُ من إحكام سيطرتها على الحكم في الولايات المتحدة.
لكن ما حصل في واشنطن نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي ينذر بأننا قد نكون على أعتاب مرحلة خطيرة ربما لم تشهد لها المنطقة مثيلًا، وهذا يحتم على أصحاب العقول – لا في منطقتنا فقط، بل في العالم كله – تفهم خطورة أن يمسك هؤلاء المتعصبون بمفاتيح الأرض، ويجب أن يعمل ساسة العالم على كبح جماح هذا التطرف الديني الذي يجرّ المنطقة والعالم كله إلى كارثة محققة.