بدأ تطوير استراتيجية الأمن القومي الأمريكي (NSS) منذ عام 1987، خلال رئاسة رونالد ريغان، استجابةً لقانون إعادة تنظيم وزارة الدفاع لعام 1986. هذه الاستراتيجية التي يتم تقديمها بانتظام من الرئيس إلى الكونغرس، تعرض رؤية الأمن القومي من السلطة التنفيذية إلى السلطة التشريعية، وتفتح المجال لمناقشة كيفية استخدام جميع أوجه القوة الأمريكية لتحقيق أهداف الأمن الوطني. ومنذ إقرارها تم إعداد 18 استراتيجية للأمن القومي.
بدايةً من عهد ريغان وحتى نهاية عهد بيل كلينتون كانت هذه الاستراتيجيات تُقدم سنوياً، لكنها أصبحت تصدر كل أربع سنوات بدءاً من عهد جورج بوش الابن في عام 2002. خلال هذا الوقت كانت الصين وروسيا تُعتبران شريكين رئيسيين، مع التركيز على تعزيز التعاون السياسي، والاقتصادي، والتكنولوجي من خلال لقاءات قيادية واتفاقيات دولية.
تغيرت هذه الديناميكية بشكل جذري مع استراتيجية الأمن القومي التي تم اعتمادها في عهد دونالد ترامب، في ديسمبر 2017، حيث تم تحديد الصين وروسيا كتهديدات مباشرة لأمن الولايات المتحدة وهيمنتها الدولية، مع تأكيد خاص على التحدي الذي تمثله الصين.
هذا التوجه الاستراتيجي الذي اتخذته إدارة الرئيس ترامب ولاحقاً إدارة الرئيس بايدن توافق مع الملاحظات المستمرة على مدار السنوات الخمس الماضية من وزارة الدفاع الأمريكية، تحت قيادة كل من الحزب الجمهوري والديمقراطي، بخصوص الخطر المتزايد الذي تمثله الصين، وبدرجة أقل روسيا، من الناحيتين العسكرية والأمنية، إضافة إلى التحديات التكنولوجية والاقتصادية.
وفقاً للاستراتيجية الأمريكية الأخيرة تُعتبر الصين الخصم الأساسي القادر على إعادة صياغة النظام الدولي، حيث تسعى بنشاط إلى تعزيز قوتها في الأبعاد الاقتصادية، والدبلوماسية، والعسكرية، والتكنولوجية بهدف تحقيق هذا الطموح. بذلك ترى أمريكا أن الصين قادرة على تجاوزها في الإطار التنافسي التقليدي الذي كانت تحرص الولايات المتحدة على الحفاظ عليه في مجالات الاقتصاد العالمي المتعددة، بذلك توجهت بوصلة استراتيجية بايدن للأمن القومي الأمريكي إلى الصين.
هكذا شتت غزة واشنطن
إلى أن جاء طوفان الأقصى، الذي مثّل حدثاً استثنائياً في الشرق الأوسط، الذي نسف منطق السياسة الانتهازية الأمريكية التي كانت تتبعها في الشرق الأوسط، وفي القضية الفلسطينية تحديداً، فخلطت كل الأوراق في المنطقة، وشتت غزة واشنطن بأن أصابت بوصلة استراتيجية الأمن الأمريكية وتوجهاتها بالشتات، فمن منا لا يذكر تصريح مستشار للأمن القومي الأمريكي مؤخراً بأن منطقة الشرق الأوسط تمر بأكثر مراحلها استقراراً خلال عقدين، حيث تم وضع الملف الفلسطيني في الدرج باسم الاستقرار المزعوم، وظنت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من اللاعبين الإقليميين والدوليين أنه يمكن تجاوز الملف وحساسياته وبناء جسور في العلاقات بين تل أبيب والعواصم العربية تقفز فوق معاناة الشعب الفلسطيني.
لكن من الواضح أن عملية طوفان الأقصى قد أعادت ثقل الملف الفلسطيني إلى الميدان فحسب، وأصابت كذلك النظام الدولي الهش ورأسه تحديدًا بالتشتت، فها هي واشنطن لا تدري على أي جبهه يجب أن تضع ثقلها، ففي أوكرانيا فشل الهجوم المضاد، ويبدو أن روسيا على وشك الانتصار، بينما يتأزم الوضع كلَّ يوم في غزة والشرق الأوسط، بينما تترقب الصين الفرصة لتستعيد تايوان، ناهيك عن التقدم التكنولوجي الذي أحرزته الصين في اختراع الكمبيوتر الكمي، والذي ربما سيغير الكثير في موازين القوى في المستقبل القريب.
فقد ذكرت الوكالات في التقرير السنوي لعام 2024 الذي تصدره لجنة من المخابرات الأمريكية عن تقييم التهديدات، إن "الصين الطموحة والقلقة، وروسيا التي تميل إلى المواجهة، وبعض القوى الإقليمية مثل إيران، وجهات فاعلة غير حكومية، بقدرات متزايدة، كلها تمثل تحدياً لقواعد النظام الدولي القائمة منذ فترة طويلة، فضلاً عن تفوق الولايات المتحدة داخله".
وركز التقرير إلى حدٍّ كبير على التهديدات التي تشكلها الصين وروسيا، أكبر منافسي الولايات المتحدة، بعد أكثر من عامين من شنّ روسيا غزوها لأوكرانيا.
وأشارت أفريل هاينز، مديرة وكالة المخابرات الوطنية إلى احتمالات أن تؤدي الحرب في غزة إلى اتساع نطاق انعدام الأمن العالمي. وقالت هاينز "الأزمة في غزة مثال صارخ على ما تحمله التطورات الإقليمية من آثار محتملة أوسع نطاقاً، بل وعلى المستوى العالمي".
إن الحرب في غزة جعلت بوصلة واشنطن متخبطة، وبينما حاولت أن تمحو الولايات المتحدة القضية الفلسطينية أصابتها المقاومة، وجعلتها تواجه "نظامًا عالميًا" يتزايد هشاشة"، وسط ضغوط سببها التنافس بين القوى الكبرى وتحديات عابرة للحدود وصراعات إقليمية.