فلسطين أون لاين

صلاة الجنازة سبقت آذان الميلاد

تقرير الجنين "عبد الله".. شظية قطعت حبله السري عن الحياة و"جنان" علقت على الجدار

...
الجنين "عبد الله".. شظية قطعت حبله السري عن الحياة و"جنان" علقت على الجدار
غزة/ يحيى اليعقوبي:

"هيني جهزتلك شنطة المولود" بملامح يعلوها الفرح يحدث القارئ عبد الله أبو جزر زوجته "شيماء" وكأنه يستقبل مولوده الأول، ينتظر بفارغ الصبر لحظة قدوم طفله الخامس ليأتي بألوان الفرح معه يشتاق لضمه بين ذراعيه، ولترديد الآذان بصوته الندي داخل أذني طفله، فكانت اللحظة المنتظرة كزهرة فرح توشك أن تتفتح بين أيام ذابلة بمرارة الحرب عاشتها العائلة منها 125 يوما قضتها في مراكز الإيواء بفعل قصف منزل بجوارهم وتضرر منزلهم.

لم تتجاوز الساعة الثانية فجر الاثنين الموافق 12 فبراير، شباط 2024 حتى استيقظت العائلة على أصوات قصف وطائرات تجوب سماء محافظة رفح تخلله إطلاق رصاص من الطائرات المروحية وأصوات الصواريخ، سرق النوم من أولادها التوأم حذيفة وجنان (11 عاما) اللذين جاءا لأمهما خائفين وحاولا النوم بجوارها، ولحقهم شقيقهم الأكبر محمد (14 عاما)، أما شقيقتهم مريم فكانت نائمة عند بيت جدها البعيد عن منزلهم.

"ناوليني خمار الصلاة حاسة حيصير اشي" كان الخوف يجتاح قلب الأم، فطلبت من طفلتها جلب خمار الصلاة، وحاولت البحث عن الأمان والطمأنينة بالاستماع لسورة تبارك، وعندما قرأ الشيخ الآيات الأولى منها بدأت الحجارة بالتساقط عليها وشعرت بسريرها يهوي نحو الأسفل فسقطت على الطابق الأرضي وبدأت النار تأكل قدميها لولا سقوط خزان مياه واستقراره بقربها، فأخذت تجرف بيديها من تلك المياه التي "أرسلها الله إليها" وتطفئ النار.

"سمعت صوت حذيفة يصرخ: "أمانة يا عم ما تسيبني" لم أسمع صوت زوجي أو طفلتي جنان ولا ابني محمد فأدركت أنهم شداء"، ونجى حذيفة مصابًا بينما نقلت للمشفى فأصبت في قدمي بكسور وتهتك في العظم وشظية في بطني" بصوت يجرحه الفقد تروي المصابة شيماء الغول لصحيفة "فلسطين" قصتها.

 

طفلة معلقة

معلقة على جدار منزلها، يتدلى جسدها الممزق أطرافه، ويحملها خمار صلاة كانت توشك على إعطائه لوالدتها قبل القصف فعلق بأحد الأسياخ الحديدية وبقي جسدها معلقة به وكأنه تحول لمشنقة، تملأ الحائط بقع دماء بقيت شاهدة على الجريمة، في لحظة وقف المسعفون في دهشة ينظرون إلى الطفلة جنان أثناء انتشال جثامين أفراد عائلتها، لتبقى الصورة شاهدة على دموية جيش الاحتلال.

في 14 أكتوبر/ تشرين أول تعرض منزل القارئ عبد الله أبو جزر للأضرار إثر استهداف منزل الأسير أحمد أبو جزر، فانتقلت العائلة للعيش في مدرسة لمدة 125 يومًا، رأت خلالها كل ألوان المعاناة وأشكالها، بدءًا من صعوبات الحياة وتكدس المدرسة بأعداد النازحين، حتى عادت للمنزل في نهاية يناير، كانون ثاني 2024 بسبب دخول زوجته في شهر ولادتها التاسع.

في اليوم التالي للقصف، جاءتها الممرضة تحمل جنينًا بين ذراعيها ووضعته في حضن أمه، التي نظرت للطفل بعيون متجمدة من شدة الصدمة، استغربت من الدموع الهاربة من حواف عيني الممرضة، كانت بمثابة نعي له، فسالت دموع أمه على جثمان جنينها الذي لم يرَ الحياة، بعد أن قطعت الشظية حبله السري، ففصلته عن أمه وعن الدنيا.

بنبرات مثقلة بحزن عميق تكمل "في اليوم التالي من إصابتي جاءني ألم المخاض، فجاءت الممرضة بطفلي الجنين شهيدا، بعد أن قطعت الشظية الحبل السري عنه، فأخبرتهم أن يسموه عبد الله على اسم والده، ويفتحوا القبر ويضعوه في حضنه، وفعلا تم لك. عندما فتحوا القبر كان مبتسما ووجهه نورًا".

ترك أبو جزر اختيار الاسم للحظة الولادة فـ "المواليد تنزل أسماؤهم معهم أيضًا"، ولم يكن يدرك أن الجنين سيحمل اسمه، وأن الصلاة على الجنين ستسبق الآذان، وأنه سيموت قبل أن يولد، ولن يرى نور الحياة.

تزوجت شيماء وعبد الله قبل سبعة عشر عامًا، كان "نعم الزوج والأب"، تقول وهي ترثيه: "لم يحزنني فيها قط، كنت عندما أسمع صوت طقطقة مفاتيحه أثناء عودته للبيت كأن قلبي يقفز من مكانه فرحا بعودة، وكان يتسابق الأولاد لاستقباله لأنه حنون".

حفظ أبو جزر القرآن الكريم عندما بلغ من العمر 17 عاما، وكان يسرده على جلسة واحدة في مشروع "صفوة الحفاظ" وسرده في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة، تصف تلاوته بأنها "تريح النفس".

الغياب الأول

بعد أيام سيحل شهر رمضان المبارك على قلبها المكلوم بالفقد، تستقبله وقد فقدت بيتها وزوجها وثلاثة أولاد، تستقبله بحزنٍ عميق وبكل ما فيها من وجع لم يلتئم، تنكس فيه رايات الحداد والألم، وهي التي كانت تستقبله كل عام بسعادة بوجود عائلتها التي تجتمع على مائدة الإفطار، ثم تذهب مع زوجها الذي يؤم المصلين في مساجد مختلفة لتسمع تلاوة القرآن بصوته الندي.

لم تقفز عن صورة طفلتها جنان وهي معلقة على جدار الحائط: "الصورة مؤلمة، وشاهدة على بشاعة جرائم الاحتلال بحق أطفالنا الذين حرموا طفولتهم واستشهدوا بدموية، كثيرا ما اتأمل الصورة وأتذكر كيف كانت تهم جنان لإحضار خمار الصلاة لي، فحدث القصف فتحول الخمار إلى مشنقة، دائمًا أردد أثناء إجراء العمليات الجراحية وأكون غائبة عن الوعي من أثر البنج: "جنان معلقة على السيخ".

كونت جنان علاقات صداقة مع أطفال في عمرها خلال حياة النزوح في المدرسة بعد تضرر منزلهم، كانت لأمها الذراع الأيمن، صبيحة "استيقظنا وأعددنا المعمول، الذي اشتهاه والدها، وأعددت كمية كبيرة رغم تعبي بسبب الحمل، وعندما عاد بالمساء كان سعيدا لأنه أخذ كمية منه ووزعها على أصدقائه".

تستحضر آخر حديث بينهما "كان سعيدا أنني جهزت له المعمول، طلب أحد الجيران منه سكرًا، فأعطاه فكان آخر صدقة تصدق بها، ونام على نية الصيام، وصلى قيام الليل ثم قرأ جزء من القرآن وغفى واستشهد على هذه الأعمال العظيمة ليلقى بها الله".

المصدر / فلسطين أون لاين