فلسطين أون لاين

مواطنون يروون لـ"فلسطين" شهادتهم الحيَّة عن دموية جيش الاحتلال

تقرير "مجزرة الطحين" .. مساعداتٌ مغمسة بدماء الشهداء

...
"مجزرة الطحين" .. مساعداتٌ مغمسة بدماء الشهداء
غزة/ يحيى اليعقوبي:

أخرج الجوع عشرات الآلاف من سكان محافظتي غزة وشمال قطاع غزة من منازلهم، وتوجهوا لشارع الرشيد على شاطئ البحر مساء الأربعاء الموافق 28 فبراير/ شباط الماضي، بانتظار دخول شاحنات المساعدات الإغاثية على أمل أن يعودوا بأكياس الطحين (الدقيق) إلى أطفالهم وعائلاتهم الذين لم يروه منذ فترة طويلة.

كان الشاب معتز أبو عاصي وأخوته الثلاثة ضمن هؤلاء الشباب، الذين خاطروا بحياتهم بحثًا عن لقمة العيش، ووصلوا لدوار "النابلسي" الواقع بشارع الرشيد على شاطئ بحر مدينة غزة وباتوا ليلة بين ظلام دامس لم يروا فيه سوى مصابيح دبابات الاحتلال ومسيراته (كواد كابتر) التي كانت تحلق فوقهم.

"ذهبنا لهناك لأننا تفاءلنا في اليوم السابق حيث استطاع مئات المواطنين الحصول على مساعدات، ولم نكن نعلم أنه كمين معد من جيش الاحتلال لإعطاء الأمان للناس حتى يأتوا بأعداد كبيرة للمنطقة، وهذا ما حصل" يستهل أبو عاصي لصحيفة "فلسطين" رواية رحلته التي كان قريبا فيها من الموت.

على جانبي الشوارع المدمرة والمجرفة من دبابات الاحتلال وبين رمال شاطئ البحر وداخل البيوت المدمرة، احتمى المواطنون من البرد وبعضهم من "أية غدر محتمل" من قوات الاحتلال، حتى حلول منتصف الليل، وزاد أملهم حينما شاع بينهم أن الشاحنات ستصل الثانية فجرًا.

يعيد أبو عاصي رسم صورة الحدث الذي انتهى بمجزرة قائلاً بصوت مقهور “الساعة الثالثة فجرا دخلت الشاحنة الأولى وكانوا ثماني شاحنات، وتقدمت دبابة قبلهم نحو الناس وكان هناك دبابة أخرى، وبحلول الرابعة فجرًا بدأت بإطلاق زخات الرصاص من رشاشاتها الآلية على صدور الناس وقذائف مدفعية، وكذلك كان قناصة جيش الاحتلال يطلقون الرصاص على كل من يحاول الصعود على الشاحنة لأخذ كيس طحين وشاركت الطائرات المسيرة في إطلاق الرصاص من الجو".

أحد الأدلة التي يؤكد من خلالها الشاب الناجي من المجزرة على أنها كانت مدبرة، إضافة لوجود عدد كبير من قناصة وجنود جيش الاحتلال والطائرات المسيرة، أن الدبابة بالعادة ما تتقدم قليلا عن الشاحنات ثم تتراجع، "يبدو أن تلك الطريقة كانت خدعة بهدف منح الناس الأمان، حيث اعتاد الناس في الأيام الأولى لدخول الشاحنات على هذا المسار من الحركة، لكن يوم المجزرة لم تتراجع وبمجرد اقترابها من الناس بدأت بإطلاق زخات الرصاص".

استطاع أبو عاصي أخذ طردين غذائيين، لكنه ألقاهم على الأرض عندما سقط شقيقه الأصغر أحمد (15 عاما) في حفرة ترابية، يحرك بقية التفاصيل "هرعت نحو أخي، لأنني خشيت أن تدوسه أقدام الناس وهم يهربون من الرصاص الجنوني، فكان المشهد مرعبا والكل يحاول النجاة بحياته".

"الدنيا كانت ليل واللي بتصوب بظل على الأرض، إلا اذا كان اله أخو أو حدا بقربه" حتى الساعة السابعة صباحًا لم يتمكن أحد من إسعاف المصابين أو نقل الشهداء.

قبل ارتكاب المجزرة بدقائق، تضاءل أمل والده بدخول المساعدات خاصة مع اشتداد البرد بعد الثالثة فجر الخميس الماضي، ما دفعهم للتراجع عن دوار "النابلسي" المكان الذي شهد أحد أبشع مجازر العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ خمسة أشهر، واستشهد خلالها أكثر من 100 شهيد فضلا عن مئات المصابين، وهذا التراجع هو ما منحهم فرصة للنجاة بالنزول على شاطئ البحر.

"غزة فيها مجاعة ولا حبة طحين" لم يستطع أبو عاصي الذي نجى من الموت ولم يحضر كيس طحين شراء كيلو طحين واحد أمس، في ظل اشتداد المجاعة على محافظتي غزة والشمال وشح المواد الغذائية والتموينية.

بأفضل الأحوال يستطيع هذا الشاب الحصول على رغيفي خبز يوميًا كوجبة واحدة غالبا يتناولها قبل النوم، أو تناول حلوى شعبية متداول تناولها في غزة "المهلبية" (مكوناتها النشا والحليب والسكر).

وتشتد المجاعة في غزة مع انقطاع الأرز، والطحين والخضراوات ونفاد المواد التموينية والأساسية، الأمر الذي اضطر بالمواطنين لخلط الشعير مع أعلاف الحيوانات للحصول على الخبز، ويضطرون لشراء ما تبقى من الخضروات التالفة مثل البصل والجزر بأسعار باهظة.

شهداء على الأرض

أما شقيقه صهيب، فشاهد المجزرة من موقع آخر يختلف عن المكان الذي تواجد فيه شقيقه معتز عندما تفرق الأخوة بفعل رصاص الدبابات، يقول: "نمت داخل سيارة أحد الرجال من شدة البرد، وعندما رأيت بعض المواطنين يحملون أكياس الطحين تقدمت رغم إطلاق الرصاص وكنت أقفز عن جثث الشهداء الملقاة على الأرض، قال لي أحدهم: "إذا مستغني عن روحك قدم".

رغم حجم الشهداء والمصابين الكبير، إلا أن الكثير من المواطنين، حسب شهادة أبو عاصي، تمكنوا من انتشال أكياس الطحين التي غمست بدماء الشهداء وعادوا بها إلى منازلهم، جاء الآلاف منهم من شمال قطاع غزة مشيا على الأقدام والتي تشتد فيها المجاعة عن المحافظات الأخرى.

وفي قصة مؤلمة نشر محمد مرتجى على منصة "X" : "ذهبت لإحضار الطحين، وأنا سائر شدني شاب من قدمي وكان يبكي ويقول لي: "أنا مصاب" وكانت قدمه شبه مقطوعة، يستنجد بي في لحظاته الأخيرة: "أمانة لو استشهدت بس وصل كيس الطحين هاد لبناتي الخمس. إلهم أسبوع كامل مش ماكلين، وتسيبنيش هنا خدني إدفني عندهم".

فيما يقول الصحفي مؤمن أبو عودة الذي وثق مشاهد حية لمجزرة الاحتلال بحق المواطنين، لصحيفة "فلسطين": "تواجدنا على مفترق النابلسي منذ صبيحة اليوم على مفترق النابلسي، ورأينا كيف كانت شاحنات المساعدات تنقل الشهداء لمستشفى الشفاء بمدينة غزة وكمال عدوان بمحافظة الشمال، وبقي قرابة 25-30 شهيدا لم يتمكن أحد من الوصول إليهم".

حاولت إسعافات جاءت من مستشفى كمال عدوان، وفق أبو عودة، الوصول إلى الشهداء لكنها لم تتمكن من الاقتراب، فتطوع ستة شبان وتقدموا بواسطة عربة يجرها حيوان ونقلوا عشرة شهداء على العربة ثم حملتهم سيارات الإسعاف نحو المشفى.

نُقل المصابون إلى مستشفيات غزة العاجزة عن أداء الخدمة بسبب استهدافها من جيش الاحتلال ومنع دخول الأدوية والمعدات إليها، وأخرى خارجة عن الخدمة كمستشفى كمال عدوان في محافظة الشمال.

يقول مدير مستشفى كمال عدوان د. حسام أبو صفية، إن المستشفى تفاجأت بالمجزرة، فمثل التعامل مع المصابين مسألة صعبة وأنها استطاعت توفير كمية وقود أدت لتشغيل المولد لخمس ساعات تعاملت المشفى مع الحالات الخطرة، مشيرا، لوصول 170 إصابة و13 شهيدا.

وأوضح أبو صفية لصحيفة "فلسطين" أن خروج المشفى عن الخدمة أعطى زيادة في عدد الشهداء، إذ أن بعض الإصابات التي وصلت كان ممكن التعامل معها بشكل أكبر، لكن غياب الوقود أدى لاستشهاد بعض الحالات.

وبحسب أبو صفية، فإن الكثير من الحالات لم تتمكن المشفى من إجراء عمليات جراحية لها حتى اللحظة وهي بحاجة لتدخل جراحي فيما بعد، في انتظار توفير الوقود لعودة المستشفى لأداء الخدمة.

وأكد أبو صفية أن كل الإصابات التي وصلت كانت بالجزء العلوي من الجسد مما يدلل أن هناك عملية قتل متعمد، وكذلك وجود مدخل ومخرج للرصاص مما يدلل على وجود مسافة قريبة بين جيش الاحتلال والمواطنين، وأن كل الإصابات كانت بأعيرة نارية أطلقتها دبابات وطائرات الاحتلال المسيرة.

ستبقى مجزرة "الطحين" شاهدة على دموية جيش الاحتلال، وأحد الأدلة على حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على القطاع، باستهداف المواطنين لمجرد ذهابهم لإحضار الطعام، ستخلد في سجله الأسود رفقة آلاف الجرائم التي ارتكبها بحق المواطنين في قطاع غزة، عندما ذهب عشرات الآلاف لإحضار أكياس الطحين فعاد أكثر من مئة منهم محملين داخل الأكياس التي غمست بدمائهم.

المصدر / فلسطين أون لاين