يروي لنا الكاتب الفلسطيني أسامة العيسة في روايته "المسكوبية" قصة محطة مخيفة في رحلة الأسير الفلسطيني، تعد مركزًا للتعذيب النفسي والجسدي الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد كل فلسطيني يبحث عن حريته فيفكر في المقاومة.
والمسكوبية، بناء أقامته السلطات الروسية في القدس عام 1857 ليكون مجمعًا للمصالح الروسية زمن الخلافة العثمانية، يتم فيه تقديم الخدمات للحجاج الروس، لكن الاحتلال البريطاني حوله إلى سجن، ورثته العصابات الصهيونية، لتحوله إلى مكان للتحقيق مع الأسرى الفلسطينيين قبل أن يتم الحكم عليهم، وتحويلهم إلى سجون أخرى، وما أكثرها في فلسطين المحتلة، التي حولها جيش الاحتلال إلى سجن كبير.
لكن المسكوبية لا يشبه مكانًا آخر، حيث أصبح رمزًا للموت الذي يتمنّاه الأسير للتخلص من العذاب.
معركة الدماغ
والدماغ هو بطل قصة الأسر، وهو محورها، وفي هذه الرواية نرى كيف يستخدمه الأسير؛ ليحفظ إيمانه وأمله وصموده، ويحافظ على حياة بدنه المثخن بالجراح والآلام، وفي المقابل يستهدف الجلاد الإسرائيلي هذا الدماغ؛ ليوقعه فريسة الخوف والوهن والاستسلام، ليحقق عبر الأساليب العقلية والنفسية ما لم يحققه التعذيب.
يقول أسير في الرواية: "الدماغ لا يكف عن التفكير في الزنازين. إنه يجعلك تتذكر أمورًا كنت نسيتها؛ فتفاجأ بأنك تذكرها، وأنها حدثت معك فعلًا. الدماغ يبقيك على قيد الحياة في السجن؛ فدون هذا العضو العجيب في الجسم لا توجد حياة. كل أعضاء الجسم تتألم من آثار الجروح والرضوض، وهو وحده يسليك ويؤنس وحدتك؛ يخيفك ويشجعك؛ يحضر لك وجوه عائلتك، والفتاة التي تحبها. يذكرك بوجوه الأصدقاء الذين ينتظرونك، ويفخرون بصمودك، وستكون لهم مثالًا، يقنعك بأنك قوي.. أقوى مما كنت تتصور عن نفسك؛ وأنك مازلت تعيش رغم كل ما حدث معك. من يستطيع أن يبقى لو مرّ بتجربتك؟!".
ولكن، هل يمكن أن تتخيل أنك تسمع صراخ فتاة عربية تتعرض للتعذيب على أيدي الجنود الإسرائيليين، وأنت مكبل اليدين والقدمين، ولا تملك لها ولا لنفسك شيئًا؟ ماذا يمكن أن يكون شعورك؟! هذا الأسير تعرض لتلك التجربة القاسية، ولعل السجان الإسرائيلي السادي اكتشف أن سماع صوت الفتاة يقهر الأسير ويدمر نفسيته، فبالغ في تعذيب الفتاة.
يقول الأسير: "لم يكف صوت صراخها عن الوصول إليّ في ساعات الفجر، وأنا في الزنزانة. كنت أضرب رأسي في الحائط الخشن. أي هوان هذا؟! لم أكن أتوقع أن أكون ضعيفًا إلى هذا الحد أمام صوتها. كنت أُومن بضريبة المقاومة، وبأنَّ العار هو الاحتلال، وليس نُواح فتاة مقدسيّة في ظلمة فجر بارد قاسٍ، في حقبة احتلال ليس هو الأول للمدينة، وسيصير في يوم ما مجرد سطر في صفحات تاريخها. لكن الواقع لم يكن كذلك؛ فظل نُواح الفتاة الذي يشبه الاستغاثة يتردد في أذني في فترات عمرية لاحقة معتبرًا أن حزنها المعتق أمانة في أعناقنا".
لم يتوقف الأمر عند ذلك؛ حيث رأى الأسير كيف يتم استخدام الأطفال الفلسطينيين الأسرى في تنظيف ممرات السجون. والاحتلال الإسرائيلي يعرف جيدًا تأثير ذلك على نفسية المقاوم، والشعور بإهانة الكرامة.
المثقف الفلسطيني في المسلخ
شهد سجن المسكوبية الذي يطلق عليه الأسرى الفلسطينيون: "المسلخ" تعذيب كثير من المثقفين الفلسطينيين، وعلماء الدين المسلمين، ورموز الحركة الوطنية الفلسطينية. وفي أقبيته تم احتجاز أفواج من المثقفات الفلسطينيات اللواتي تعرضن لتعذيب شديد وانتهاكات جسدية.
وفي هذا السجن، لفظَ الشهيد قاسم أبو عكر (أبو خالد) الذي ارتبط اسمه بالمسكوبية آخر أنفاسه، بعد أن تعرض للكثير من أنواع التعذيب، وتم اعتقال زوجته للضغط عليه للإدلاء باعترافات ضد الفدائيين. وعندما أطلقوا سراحها علمت باستشهاد زوجها.
تستخدم السلطات الإسرائيلية في هذا السجن "الشبح" لساعات طويلة، والشبح تقنية تعذيب تعتمد على إجبار الأسير على اتخاذ وضعيات جسدية شاقة ومؤلمة لفترات طويلة من الزمن، كالوقوف دون حركة لساعات، أو الجلوس أو الانحناء في وضعيات مؤلمة يصعب تحملها لدقائق معدودة، وفي هذا السجن، يزيدون على ذلك تغطية وجه الأسير بكيس تفوح منه رائحة البول، وإذا نزل الثلج في الشتاء، استخدمه الجلاد فرصة لمزيد من التعذيب.
يقول الأسير: إن "الثلج في المسكوبية يتحول إلى جحيم؛ فلا شيء مثل البرد يمكن أن يؤثر في جسد الإنسان. إنه ينخره حتى يشتكي الألم من الألم؛ فيحبس السجين آهاته في أعماق أعماقه؛ ثم يبدأ مفعول البرد من جديد في دائرة تصل ذروتها خلال ثوانٍ يشعر فيها الأسير أنه وصل قعر العالم، واستقال من هذه الدنيا".
ويضيف: "اقتنعت بأن ثلج المسكوبية الذي أراه: أسود؛ فلا يمكن أن يكون أبيضَ أبدًا، فالناس في بلادي يحبون البياض ويغنون له؛ فلا بد أن ثلج المسكوبية يختلف عن ثلجنا. ثلج المسكوبية أسود وثلجنا أبيض".
وحتى الموسيقى تستخدم هناك للتعذيب.. هل تتخيل ذلك؟! هناك سيمفونية لبتهوفن عنوانها: "ضربات القدر" يتم تشغيلها بصوت مرتفع جدًا عبر سماعات على أذنَي المعتقل، ويرتبط ذلك بهزه بعنف، ليشعر الأسير أن قدره قد انتهى فعلًا. هذا الأسلوب وحده أدّى إلى استشهاد عدد من الأسرى في سجن المسكوبية.
ومن أساليب القهر والتعذيب النفسي، الحوارات الطويلة التي يتحدث فيها المحققون خلال التحقيق عن قوة إسرائيل وتقدمها، في مواجهة عالم عربي ضعيف ومنهزم، ويتم المقارنة بين قادة إسرائيل الأقوياء، والقادة العرب الضعفاء.
وطن الشهداء والمعتقلين
يقول الأسير: "من زنزانتي كنت أستمع إلى استغاثة أسير اسمه غسان، كان يعاني مرضًا، ولا يتحمل الشبح لساعات طويلة في ليل المسكوبية البارد، فاستشهد تحت التعذيب. لم أرَ وجه غسان إلا في الصور بعد استشهاده بسنوات مع صور أخرى لشهداء قضوا في سجن المسكوبية، بعضهم عانقت روحه سماء القدس فجرًا وهو "مشبوح"، أو وهو يتحدى سادية محقق هاجر إلى القدس من بلاد بعيدة ليعذب شبابها".
يضيف الأسير: كنت دائمًا أتساءل أين ستذهب دماء هؤلاء؟! من سيذكرهم؟! وماذا سيكتب التاريخ عن شبان صغار من نسل أولئك العرب وجدوا أنفسهم وحيدين عاجزين في طرقات المدينة المقدسة، يدافعون عن أسوارها وحجارتها، وظهورهم إلى الحائط. ما هو التاريخ إن لم يكن قصص هؤلاء وأشجانهم وعلاقاتهم وضعفهم وقوتهم وخطاياهم وعظمتهم وحبهم وكرههم؟!
توقفت طويلًا أمام ذلك التساؤل الذي يتحدى صمتنا وعجزنا عن نصرة رجال قضوا وهم يدافعون عن المسجد الأقصى، ورفضوا الخضوع والخنوع والاستسلام للواقع.
تأتي مفارقة أخرى عندما يقول الأسير: خرجت من سجن المسكوبية، ولم أكن أعرف أنني بعد بضعة أيام فقط سأكون على موعد جديد مع الاعتقال في سجن رام الله هذه المرة، وكأنني حبيس دائرة مغلقة لا فرار منها كواحد من جيل قدر له أن يعرف بلاده من خلال المعتقلات.
ويقول أسامة العيسة؛ إنه استفاد من الأساليب البحثية والصحفية في تطوير هذه الرواية؛ حيث اقترب السرد أحيانًا من التحقيق الصحفي. وبالرغم من أنه يقول؛ إن النص أرسله له أسير مجهول، وأن دوره اقتصر على تحريره.. إلا أن لأسامة العيسة تجربة في سجن المسكوبية، استمرت مدة شهرين عندما اعتقل عام 1982؛ كما أهدى الرواية لابنه باسل المعتقل في سجن المسكوبية وعمره 15 عامًا، وشرب عذاب المسكوبية حتى أصبح قادرًا على كتابة رواية عن ذلك العذاب الوحشي.
في هذا العمل يقول أسامة العيسة لكل أسير: لا يوجد خلاص من زنزانتك إلا أن تكون نفسك صاحب قضية تريد أن تنتصر على محقق يجب أن تراه مجرد خادم يدافع عن قضية خاسرة. أنت تمثل الإنسان الحر؛ بينما هو مِسمار في آلة تدوس من أمامها.
لكن هل نصيحة أسامة العيسة موجهة للأسرى الفلسطينيين فقط، أم لكل الأحرار الذين يواجهون الطغيان ويحلمون بتحرير أوطانهم؟!