كيف ومتى تنتهي الحرب في غزة، التي انطلقت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023؟ هذا السؤال يتكرر بشكل متصاعد في جميع أنحاء العالم، خاصة بعد مرور 138 يوماً على الحرب دون ظهور أي مؤشرات توحي بإمكانية التوصل إلى اتفاق يوقف -ولو مؤقتاً ولفترة قد تطول أو تقصر- العمليات الممنهجة لإبادة ومحاولة تهجير سكان القطاع الفلسطيني.
العملية العسكرية التي تقودها قوات الاحتلال الإسرائيلي لم تحقق سوى القليل جداً من الأهداف التي حددتها حكومة تل أبيب؛ ما دفع العديد من الخبراء العسكريين -وعلى الرغم من التعتيم الإعلامي الذي تمارسه وسائل الإعلام الغربية- إلى التأكيد على تعثر عملية "السيوف الحديدية"، وتضخم خسائر الاحتلال وحلفائها الغربيين، خاصة في ضوء مسار المواجهات في ما يوصف بـ"مستنقع غزة". وقد نجحت القوات اليمنية في فرض شلل كامل على عملية النقل البحري نحو إسرائيل من البحر الأحمر؛ ما كبّد الاقتصاد الغربي خسائر كبيرة، وتعرضت المؤسسات والقواعد الأمريكية في الشرق الأوسط لتهديدات متزايدة.
على عكس تسميات العمليات العسكرية السابقة للاحتلال مثل "الرصاص المصبوب" في عام 2008 و"الجرف الصامد" في عام 2014، يبدو أن الاحتلال الإسرائيلي هذه المره اختار بسرعة وبشكل متسرع اسم "السيوف الحديدية" لعمليتها العسكرية الأخيرة، مدفوعة بالصدمة العسكرية التي أحدثتها المقاومة بامتلاكها لعنصر المبادرة خلال عمليتها "طوفان الأقصى".
وفي مقال لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، سخر الكاتب حاييم ليفينسون من تسمية الجيش الإسرائيلي لهذه العملية بـ"السيوف الحديدية"، واصفاً إياها في الواقع بـ"عملية سقوط السراويل"، وفق تعبيره.
راهن البعض على نهاية غير بعيدة لمعركة غزة، معتمدين في تقديرهم على أن تل أبيب ليست في وضع يسمح لها بخوض حرب طويلة الأمد، سواء اقتصادياً، عسكرياً، أو سياسياً، خاصة إذا تعددت جبهات القتال. ومع تجنيد جزء كبير من القوى العاملة من المستوطنين، ومنع العمالة الفلسطينية من مواصلة العمل داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948، بدا أن هناك تحديات جمّة. ولكن، كان خطأ هؤلاء ربما يكمن، جزئياً، في عدم أخذهم بالحسبان حجم الدعم الغربي لتل أبيب، وبشكل أساسي من الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، وألمانيا، والذي جاء لأسباب متعددة. من ضمنها أن تكتل الناتو الغربي قد قدّر أن نكسة الاحتلال في مواجهة المقاومة تعد استمراراً لتحولات في موازين القوى الدولية غير مواتية للغرب، والتي أصبحت حرب روسيا ضد أوكرانيا أحد مكوناتها الرئيسية.
خلال تحليلاته، طرح نعوم تشومسكي، الفيلسوف وعالم اللسانيات الأمريكي، فكرة تشير إلى أن الإمبراطوريات تخوض مرحلتين تمثلان الأعلى عنفاً في تاريخها. "قلق البداية" هي المرحلة الأولى، حيث تسعى الإمبراطورية من خلال الحروب والعنف إلى الانتقال من كونها دولة عظمى إلى إمبراطورية عالمية مهيمنة. في المقابل، يأتي "خوف النهاية" كالمرحلة الثانية، التي تضطر فيها الإمبراطورية إلى اللجوء للحروب، سواء كانت على النمط القديم أو بأشكال جديدة، لمواجهة خوفها من الزوال ولضمان استمرار هيمنتها. لكن ما يراه تشومسكي نلاحظه من تراجع لهيمنة الولايات المتحدة اليوم يؤكد أن هذه الحروب، إلى جانب العنف والتدابير المتبعة، لا تؤدي إلي استرجاع نفوذها وهيمنتها المتراجعة، بل إلى تسريع وتيرة النهاية التي تحاول الإمبراطورية جاهدة تجنبها.
واليوم لا تملك الأطراف المعتدية على غزة إلا خيارات صعبة ومحدودة: إما التوصل إلى تسوية مؤقتة توفر مخرجاً لحفظ ماء الوجه لتل أبيب وحلفائها، أو الاستمرار في الحرب لأشهر، وربما سنوات، على غرار الصراع الذي دار في فيتنام وأفغانستان والذي انتهى بنتيجة لم تكن ضمن تقديرات معظم السياسيين والمراقبين. لكن يجب ألا ننسى، أن بعد أكثر من أربعة أشهر من القتال في غزة، تتعاظم معاناة الفلسطينيين في غزة -من أطفال، ونساء، وشيوخ في مساحة صغيرة- ويعتبر ذلك نقطة ضعف للمقاومة الفلسطينية، يُحاول الاحتلال استغلالها إلى أقصى درجة. هذا لأن هناك في تل أبيب وواشنطن وغيرهما من الغرب من يعتقد أن فشل الصدام مع المقاومة في غزة قد يشير إلى نهاية المشروع الإسرائيلي في الشرق الأوسط ككل.
وسط هذه الحرب الضبابية، تتصاعد التهديدات الخفية باللجوء إلى السلاح النووي خلف الكواليس كلما واجهت العملية العسكرية الإسرائيلية عقبات، وتزداد المخاوف من توسع نطاق الحرب، خاصة على الجبهتين الشمالية مع حزب الله في لبنان والجيش المصري في سيناء.
يقف العالم اليوم على مفترق طرق حاسم بسبب تخليه عن غزة، الخيارات المتاحة تحمل في طياتها تبعات جسيمة ليس فقط للأطراف المباشرة في الصراع، بل وللنظام الدولي ككل. إن التاريخ يقف شاهداً على هذه اللحظة الفارقة، مذكّراً بأن الحروب لا تحدد مصائر الأمم فحسب، بل تعيد صياغة العلاقات الدولية بأسرها.