تؤكد التصريحات المتواترة للقيادات السياسية والعسكرية لدولة الاحتلال، أنّ الجيش يعدّ لعملية برية في رفح، أقصى جنوب قطاع غزة -رغم تحذيرات صدرت عن عدد من الجهات، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية ومصر- لدرجة عدّها شرطًا أساسيًا لإتمام الحرب بانتصار عسكري، وما دون ذلك هزيمة.
الطريق إلى رفح
ليس من المبالغة القول؛ إن الآلة العسكرية "الإسرائيلية" قد خاضت عدوانها على قطاع غزة بالطريقة التي تريد وبأريحية ملاحظة، متسلحةً بتوازن قوى مختل، بداهةً، مع المقاومة الفلسطينية، ودعمٍ غير محدود وغير مشروط لها من الولايات المتحدة الأميركيّة وعدد من الدول الغربية، وصمت عربي- إسلامي في العموم، وقواعد اشتباك مستجدة، ولكن منضبطة ومقروءة مع أطراف محور المقاومة،ولا سيما حزب الله في لبنان، وحالة شعبية دون المستوى في العالمَين: العربي والإسلامي.
ولذا، فقد أمطر الاحتلال القطاع بكَميات غير مسبوقة من القذائف والصواريخ، ثم خطّط للعملية البرية، ثم نفذها بشكل تدريجي بطيء مستهلًا من شمال غزة، ثم غزة، ثم المحافظات الوسطى،وصولًا لخان يونس، مستبيحًا خلال ذلك البشر والحجر وكل ما يمتّ للحياة بصلة، دون أي محاذير أو موانع سياسية أو قانونية أو أخلاقية.
ورغم مرور أكثر من أربعة أشهر، فشل الاحتلال في تحقيق أيٍّ من الأهداف الكبيرة التي وضعها لعمليته العسكرية، فلا قضى على حركة حماس، ولا منع هجماتها الصاروخية، ولا قوّض قدراتها العسكرية، ولا حرّر أسراه من أيديها، وأيدي باقي الفصائل.
لكنه تسبّب بمأساة إنسانية غير مسبوقة عن سابق تصور وتصميم؛ بهدف الضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة ولي ذراع الأخيرة.
في نهاية المشهد، كان زهاء مليون وأربعمئة ألف مدني – وفق تقديرات دولية – قد تجمعوا في رفح ذات المساحة الجغرافية الضيقة في اكتظاظ مهول، بما يدق نواقيس خطر مجازر غير مسبوقة محتملة في المدنيين في أي عملية عسكرية ولو محدودة.
في المقابل، سبق الحديثَ عن العملية البرية في رفح تطوراتٌ مهمة،في مقدمتها القرار الأوّلي لمحكمة العدل الدولية الذي عنى أن "إسرائيل" متهمة بارتكاب إبادة جماعية، وأنها تحت المراقبة والملاحظة، ومنها تراجع الحماس الغربي للعملية العسكرية في غزة، بل ووجود بعض الضغوط باتجاه إنهائها، ومستوى من الاختلافات في وجهات النظر مع الإدارة الأميركية (لم تصل حد الخلاف والشقاق)، فضلًا عن بدء مسار من المفاوضات لوقف إطلاق النار، وُصف بالجِدّي والواعد بعد اجتماع باريس.
بَيد أن تراجع نتنياهو عن مسار التفاوض – بعد رد حماس على ما سُمي "اتفاق الإطار"، وبل وما سرّب بأنه تراجع حتى عن اتفاق الإطار نفسه الذي كانت حكومته جزءًا منه، بالتزامن مع ازياد وتيرة تصريحات الأخيرة بالإصرار على العملية البرية في رفح – جعل الأمر يبدو كورقة تفاوضية للضغط على حماس والأطراف الفلسطينية.
وهو تحليل ذو وجاهة كما هو واضح، من باب حرص حركة حماس على تجنيب المدنيين في رفح مغبة وتبعات عملية برية، ومرونتها حتى اللحظة في محطات التفاوض المختلفة، وافتقادها للظهير العربي – الإسلامي إلى حد كبير، والأوضاع الإنسانية المتفاقمة في عموم القطاع، وخصوصًا محافظتي شمال غزة وغزة، حيث يعاني الناس تجويعًا مقصودًا.
ذلك صحيح وذو وجاهة، لكنه لا يكفي بمفرده – من وجهة نظرنا -ليكون إطارًا تفسيريًا للإصرار "الإسرائيلي".
عملية حتمية
إذن، فالتلويحُ المستمر بعملية برية وشيكة في رفح -في ظل تكدس النازحين فيها بأعداد كبير – ورقةٌ تفاوضية قوية بيد الاحتلال يحاول من خلالها إضعاف موقف حماس وفصائل المقاومة الأخرى.
وقد أكد وزير دفاع الاحتلال يوآف غالانت، أنَّ "تعميق العملية العسكرية في غزة" من شأنه تقريب "إسرائيل" لما وصفه بـ "اتفاق واقعي لتبادل الأسرى".
لكن سلوك حكومة نتنياهو حتى اللحظة يعزز فكرة أن العملية ستشنّ حتى ولو أبدى الطرف الفلسطيني مرونة غير مسبوقة للتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى بين الجانبين.
ميدانيًا، ورغم ما تقدم شرحه مما تسببت به آلتها العسكرية، فإن دولة الاحتلال ما زالت بعيدة عن الوصول لصورة نصر، بل وحتى عن ادعائها، رغم دخولها معظم مناطق القطاع ومحافظاته، وعشرات الآلاف من الشهداء وأكثر منهم من المصابين والجرحى، وتدمير البنية التحتية، وتحويل غزة لمكان غير قابل للحياة.
ولذلك، ما زالت حكومة نتنياهو – ومعها المؤسسة العسكرية والأمنية – تؤمن بضرورة دخول و/أو احتلال كافة محافظات القطاع للوصول لمرحلة إمكانية ادعاء النصر.
يعني ذلك أن العملية في رفح حتمية بالنسبة لهم، ولذلك فقد رأى نتنياهو أن مجرد الامتناع عن دخول رفح يعني "الاستسلام لحماس، بل وخسارة الحرب برمتها".
فضلًا عن أن عملية عسكرية في رفح ستعني، نظريًا، ارتفاع احتمال الوصول لبعض الأسرى وتحريرهم، وقد ادّعى الاحتلال تحرير أسيرين في رفح في عملية عسكرية خاصة ذهب ضحيتها ما يقارب المئة شهيد، بغض النظر عن مدى دقة روايته.
الأهم من كل ما سبق أن الاحتلال يرى أنه من الضرورة بمكان الاشتباك مع كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، في رفح. إذ من شأن هذا الاشتباك، وفق رؤيته، أن يوقع فيها الخسائر ويقوض من قدراتها، وبالتالي يضعفها مرحليًا وفي المستقبل، وأن يمنح نتنياهو فرصة الادعاء بأنه واجه حماس ودمر بنيتها العسكرية في "كافة مناطق قطاع غزة".
وهو المعنى الذي أكده بيان صادر عن مكتب نتنياهو، الذي قال: إنه "من غير الممكن القضاء على حماس مع إبقاء أربع كتائب لها في رفح".
من جهة ثانية، ترى حكومة الاحتلال أنها ليست في متسع من الوقت بالنسبة للعملية، وأن من الأفضل لها أن تبدأها وتنهيها قبل حلول شهر رمضان (بعد شهر تقريبًا من الآن)؛ تفاديًا لردات فعل شعبية وانفلات أمني في الضفة الغربية تحديدًا و/أو بعض الدول العربية.
وبالتالي أن يُستغل رمضان في إعلان التهدئة وتبادل الأسرى – حال التوصل لاتفاق – وليس في العمليات العسكرية التي تزيد من التوتر.
وعليه، بالنظر لكل ما سبق، تبدو العملية البرية في رفح حتمية بالنسبة للاحتلال، ولا يبدو أن ثَمةَ اختلافاتٍ عميقةً بين المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية بخصوص خطوطها العريضة، ولا حتى هناك اعتراضٌ أميركي حقيقي يمكن أن يحول دون حصولها.
إذ أشارت تصريحات الرئاسة والخارجية الأميركيتين لمشاركة واشنطن، تلَّ أبيب أهدافَ القضاء على حماس وتحرير الأسرى، مع التأكيد على ضرورة "وجود خُطة ذات مصداقية وقابلة للتنفيذ" لحماية المدنيين في رفح.
ما لا يبدو واضحًا بشكله النهائي، في المقابل، هو سقف العملية وأهدافها الحقيقية ومداها، وهي أمور ستعتمد إلى حد كبير على أداء المقاومة في رفح وعموم القطاع، ومدى قدرة الاحتلال على تحريك المدنيين من رفح باتجاه خان يونس والمحافظات الوسطى و/أو مصر، والموقف الأميركي الحقيقي من العملية بعد اتضاح تفاصيلها، ومدى قدرة نتنياهو على تسويغ العملية وتسويقها دوليًا.
بَيدَ أنه من الواضح أن نتائج العملية المرتقبة في رفح لن تختلف بشكل جذري عن سابقاتها في المحافظات الأخرى؛ أي أنها أبعد ما تكون عن أن تسفر عن نصر ناجز للاحتلال، ما يعني أنها وإن أطلقت لأهداف سياسية وعسكرية وأمنية إضافة لملف التفاوض، إلا أن الأخير هو ما يمكن أن يحسم الأمر في نهاية المطاف.
فالعملية ستجيّر في النهاية وتُقرأ كورقة تفاوضية وليس كمحطة لإنهاء العدوان بالضربة القاضية.