من أيقظ "عرقوب" العربي من سباته صباح الثاني من تشرين الثاني /نوفمبر 1917م، ليطلب منه سرعة تجهيز وعد مقابلٍ لوعد بلفور، الإنكليزيّ الصادر في اليوم نفسه، وهو الذي ظنّ أن وعده الأول عابر للأزمان العربية برمتها؟، يستيقظ هذا السؤال اليوم ثانية، أي بعد مرور مئة عام على وعد بلفور، في حين يظل المذنب الذي حاول الاستعانة بعرقوب مجهولًا حتى الساعة.
كان وعدًا من شقٍّ واحد، موجهًا إلى اليهود فقط، قبل أن يكتشف بلفور الخدعة، فيضيف إلى الوعد المعدّ للإشهار شقًّا "عرقوبيًّا"، كي يفوّت على "الأقليات" المقيمة في فلسطين فرصة الاحتجاج على الوعد، فقد جاء في ديباجته الأولى: "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية".
كان يمكن أن ينتهي الوعد عند هذه النقطة، كما أسلفت، غير أن ثمّة من تدخل في اللحظة الأخيرة، ليقترح إضافة عبارة مغمغمة، لاسترضاء "الأقلية"، والمقصود بها _دون شك_ الشعب الفلسطيني، الذي كان يشكل 95% من سكان فلسطين آنذاك، لكنه في نظر الاستعمار البريطاني لم يكن أزيد من "أقلية"، فالهدف قد رسم بعناية على مدى عقود قبل ذلك، فجاءت الإضافة الملصقة بغراء رخيص على النحو الآتي: ".. على أن يفهم جليًّا أنه لن يؤتى بعملٍ من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية، التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين".
بهذه الإضافة محي شعب بأكمله، صنّف بأنه "طوائف غير يهودية"، وبها أيضًا ظهر أن للغرب وجهًا عرقوبيًّا، حين يتعلق الأمر بالوعود الموجهة إلى العرب، مستفيدًا من الجد العرقوبي العربي نفسه، على قاعدة: "الدود من العود"، حتى لا يلومنّه عربي يومًا على وعد أخلفه.
أما العربيّ الذي صدمه الوعد البلفوريّ آنذاك فقد سارع إلى الاستنجاد بقادته المنهمكين بتجزيء بلادهم، وتقطيرها تحت عناوين "الثورات" على "المستعمر العثماني"، استنادًا إلى وعد "عرقوبي" آخر من السيد البريطاني نفسه، بإنشاء وطن عربي موحد، فكانت النتيجة أن تضاعفت صدمته، لأنه وجد أن قادته لا يزالون مؤمنين بصدق الوعود البريطانية، مع أنها تقطر "عراقيب" وعقارب.
غير أن قادة "الثورات" العربية الذين ارتأوا ضرورة امتصاص نقمة الشعوب الحانقة على نكث الوعود البريطانية عمدوا إلى الاستنجاد بعرقوبهم الأول، وراحوا يطلقون سلسلة وعودٍ مقابلة، من قبيل أن وعد بلفور لن يمسّ السيادة العربية على فلسطين، ولا يعني بأي حال إنشاء وطن قومي لليهود على ترابها، وإنما هي مجرد هجرات مفيدة للفلسطينيين والعرب، خصوصًا حين يتلاقح رأس المال والخبرات العلمية التي يحملها المهاجرون، والأرض والعمالة الفلسطينيتان.
لكن مع إعلان إقامة الكيان العبري الذي لم يستغرق أزيد من ثلاثين عامًا على وعد بلفور تبدّدت كل تلك الوعود "العرقوبية" من المستعمر البريطاني، وقادة "الثورات" العربية الذين ارتضوا بفتات التجزيء بديلًا من الوحدة التي وعدهم الإنكليز بها، فكان لابد من إيقاظ "عرقوب" مرة أخرى، الذي نهض هذه المرة على "وعد" جديد، قوامه "تحرير فلسطين من البحر إلى النهر"، واغتسل الفلسطينيون بعسل هذا الوعد، وراحوا ينتظرون تحققه.
وفي مقابل تناسل وعد بلفور إلى وعودٍ تتحقق للصهاينة باستمرار، بعد أن تبنّى الوعد بلفوريون آخرون في واشنطن وسائر عواصم العالم "الحر"؛ تناسل أيضًا "عراقيب" عرب، من زعماء وساسة و"ثوار"، ظلوا يعدون الفلسطينيين بوعود تحققت فعلًا، لكن على خيباتٍ لم يعد يتسع لها الوطن العربي برمته.
عمومًا من "عرقوب" إلى "بلفور" مسافة لا يدركها غير "المخدوعين" و"المصدّقين"، وتمثل الفرق بين عربيّ مبتلى بزعامات كاذبة وغربيّ يؤمن بأن أفعال ساسته تسبق وعودهم وأقوالهم كلها، إذا اتصل الأمر بمصالحهم، في حين يصبح هؤلاء الساسة أنفسهم "عراقيب"، إذا تعلق الأمر بشعوب "الأقليات" المستعمرَة.
أما المسافة بين "عرقوبين" عربيين من الجدّ إلى الحفيد فتساوي صفرًا، ويظل أن لهم "بلفورهم"، ولنا "عرقوبنا".