التربية ضرورةٌ بشريةٌ لا بد منها من أجلِ بقاء الإنسان وبناءِ الأجيال وتطورِها، وهي تعتنى بالدرجة الأولى بتنشئة الإنسان ورعايته وتوجيهه نحو الخير والصلاح والوصول به إلى الكمال الإنساني في جميع جوانبه الروحية والعقلية والوجدانية والخلقية والاجتماعية والجسمية لبناء الفرد والمجتمع، وتأكيدِ القيم الأصلية وصلاحِ الأخلاقِ والنفوس.

وللتربيةِ في الدين الإسلامي منهجُها الكاملُ وطريقتٌها المتميزةُ في بناءِ الإنسان الصالح روحيًا وخلقيًا ونفسيًا وعقليًا وجسميًا واجتماعيًا ليكون إنسانًا متوازنًا ومواطنًا قادرًا على النهوض بمجتمعِه على أساسِ علمي وعمل مستقيم، وقد تضمن سور القرآن الكريم وأرستْ العديدِ من الأسسِ الثابتةِ التي تقومُ ببناء الفردِ القوي الراسخِ بعقيدتِه وأخلاقِه وتسمو به إلى أعلى القمم.

إن للقرآن الكريم منهج تربوي فريد في لمس القلوب، وتحريك العواطف، ولقد أنزله الله سبحانه وتعالى على فترات ليربي: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) ، يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: فالفرق مقصود، والمكث مقصود لحكمة من الله، حيث كان القرآن يتنزل بحسب المشاكل والحاجات ليربي الصحابة تربية عملية واقعية سلوكية، وهم بدورهم حولوا القرآن إلى منهج عملي، وإلى مجتمع متحرك مرئي، ومنظور ومسموع.

وقد تعدّدت الأساليب التربويّة في الإسلام، وتنوّعت؛ وذلك من حكمة الله تعالى في مُعالجته النفسَ البشريّة؛ حتى يتربّى الإنسان من خلالها على تعديل سُلوكه؛ فيرتقيَ بنفسه، إذ إنّ كُلّ أُسلوبٍ منها ينفذ إلى نفس الإنسان من خلال أحد منافذها، ممّا يُؤدّي في النهاية إلى الانتفاع بهذه الأساليب كلّها، والتي منها ما يأتي:

1.         التربية بالعِبرة والمَوعظة: قال سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ( ، وهذا الأسلوب يُربّي النفسَ البشريّةَ على العقيدة، والأخلاق، ويُبيّن له واجباته من خلال أُسلوبٍ لطيف.

2.         التربية بالقِصّة القرآنيّة: قال سبحانه وتعالى عن القِصّة القرآنية: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ(، وهي من أكثر الأساليب تشويقاً وفعالية في تعديل السلوك، وخاصّةً أنّها ذاتُ أغراضٍ أخلاقيّة.

3.         التربية بالقُدوة الحَسَنة: إذ يُربّي القرآن المُسلمَ على الاقتداء بغيره من الأنبياء والرُّسُل -عليهم السلام-؛ فيبرأ المسلم من الشِّرك، والمُشركين، كفِعل نبيّ الله إبراهيم عليه السلام، ويصبر كفِعل نبيّ الله داود عليه السلام، وهكذا يتعامل مع الأنبياء جميعهم، ويُشار إلى أنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكَرَ عدداً من الأنبياء في القرآن الكريم، قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، فيلتزم المسلم بالدعوة إلى الحقّ، وعدم اتِّباع أولياء الشيطان.

4.         التربية بالترغيب والترهيب: يتعامل القرآن بهذا الأُسلوب بالقَدر الذي يُقوِّم به النفسَ البشريّة؛ ليسير المسلم على رضا الله -تعالى، ويفوز بجنّته، وينجو من عقابه، وهُما أمران مُتلازمان؛ فمِن الناس مَن لا يؤثّر فيه إلّا الخوف، ومِنهم مَن لا يُؤثّر فيه إلّا الترغيب والثواب، ويظهر ذلك واضحاً في آيات كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: (وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).

5.         التربية بالتدرُّج: يستخدم القرآن هذا الأسلوب في التربية الإسلاميّة؛ فقد نزل القرآن مُفرَّقاً؛ فبدأ بذِكر الجنّة والنار، ثُمّ الحلال والحرام، وهذا ما أشارت إليه السيدة عائشة-رضي الله عنها- فيما أخرجه البخاري أنها قالت: "إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا..."، وفي ذلك إشارة إلى الحكمة الإلهيّة في ترتيب تنزُّل القرآن الكريم؛ وذلك لتطمئنّ النفس البشريّة بِما أُنزِل إليها من أحكام؛ لأنّ النفسَ مجبولة على النفور من تَرك المَألوف.

6.         التربية بضَرب الأمثال: تُؤثّر العبرة في الحِسّ الإنسانيّ، وتدعو الإنسان إلى التفكُّر، وهو أحد الأساليب القرآنيّة العظيمة، وتُضرَب الأمثلة في القرآن الكريم؛ كي تُؤخَذ منها العِبرة، ويتدبّر المسلم فيها، كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب).

ونخلص إلى أن القرآن الكريم لم يدع شيئًا من أمور الناس في دنياهم إلّا وله فيه ذكر، كما بيَّنَ الله في هذا القرآن ما يقيم أمر الإنسان ويضمن له سعادته في الدنيا، ويضمن له أيضًا فوزه في الآخرة.