بالكاد استطاع المحرر باسل عيايدة الوقوف والسير على قدميه، في إثر إطلاق سراحه أول من أمس، بعد سنوات طويلة من الأسر جمعت بين طفولته وريعان شبابه في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
كان باسل يسير بخطوات ثقيلة وشعرٍ مُشَعَّثٍ؛ كثافة لحيته السمراء أخفت من ورائها وجه إنسان يغمر في أعماقه آلامًا ومعاناة لا حدود لها.
بدا باسل ليس في أحسن أحواله خاصة أنه أمضى من سنوات عمره 6 سنوات في زنازين العزل الانفرادي من أصل 11 سنة فترة سجنه التي أقرتها محاكم الاحتلال ضده، وقد جعلت منه إنسانًا ليس في حالته الطبيعية، كما كان قبل اعتقاله في 2012.
"لم يكن يذكر أي شيء، ولم يعرف أحدًا من أقاربه" هكذا وصف عزيز عيايدة حال ابن أخيه المحرر باسل (26 عامًا).
وينحدر باسل من بلدة الشيوخ شمال محافظة الخليل، جنوبي الضفة الغربية المحتلة، اعتقل عندما كان طفلاً بعمر (14 عامًا)، وتجشم معاناة كبيرة منذ اللحظات الأولى لاعتقاله بناءً على تهم ملفقة.
ويروي عم المحرر لصحيفة "فلسطين" تفاصيل عميقة عن حالة ابن أخيه، وسبب اعتقاله في سجون الاحتلال.
الحكاية
قبل سنوات طوال أجبر باسل على ترك مقاعد الدراسة والتوجه للبحث عن عمل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948، وتحديدًا في مدينة بئر السبع، وشجعه على ذلك ضيق الحال وتردي ظروف عائلته.
بالفعل استطاع الوصول إلى هناك بعد مشقة طويلة على الرغم من عدم مواءمة عمره للعمل في الداخل المحتل، أو امتلاكه الأوراق اللازمة لذلك.
اقرأ أيضاً: نادي الأسير يحمّل الاحتلال المسؤولية عن الحالة الصعبة للمحرر علي عيايدة
ويقول عمه: على الرغم من صغر سنه، إلا أن باسل تمتع بشخصية قوية وقدرة على التضحية، ولم يشكل ذلك عائقًا أمامه لممارسة العمل من أجل تحصيل المال والمساهمة في توفير احتياجات عائلته.
لكنه اصطدم بأصحاب العمل في بئر السبع وهم مستوطنون يهود، وفي أحيانٍ كثيرة لا يعطونه أجره، ما جعله يدخل في إشكاليات عدة معهم، ولم يمضِ كثيرًا حتى أبلغ هؤلاء المستوطنون شرطة الاحتلال بعدم امتلاك باسل التصاريح اللازمة للعمل في الداخل المحتل.
سارعت شرطة الاحتلال لاعتقاله، وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياة باسل، لا زالت آثارها واضحة عليه حتى يومنا.
"تعرض باسل خلال سنوات اعتقاله لاعتداء وحشي من عناصر وضباط شرطة الاحتلال، جعله ذلك يحاول الدفاع عن نفسه، والتصدي للعدوان عليه" يقول عمه، وبدا آسفًا على حال ابن أخيه.
"تعامل عناصر شرطة الاحتلال بانتقام مع باسل، ولاحقًا وجهت له سلطات الاحتلال عدة تهم، منها: دخول الأراضي المحتلة بشكل غير شرعي، مقاومة الأمن وإيذائه، والسرقة، وكانت هذه التهم كافية لتُصدر محاكم الاحتلال بحقه حكمًا بالسجن 10 سنوات على الرغم من عدم إثباتها" وهنا القول لا زال لعمه.
وزجت سلطات الاحتلال باسل في السجون الجنائية المقامة على أراضي الـ48، ولم تكتفِ بذلك، إذ إن السجانين وعناصر آخرين من إدارة السجون ارتكبوا انتهاكات جسيمة بحقه، واعتدوا عليه بوحشية خلال نقله بين المحاكم والسجون عبر ما تعرف بـ"البوسطة" المركبة المخصصة لنقل الأسرى.
وتابع عيايدة: بعد فترة قصيرة من سجنه أضيفت سنة جديدة إلى سنواته العشرة، بتهمة الاعتداء على مجندة إسرائيلية، وعلى أثرها قررت إدارة السجون منع الزيارة عنه قبل أكثر من سنة ونصف من إطلاق سراحه.
لكن العائلة تشكك بشدة بمصداقية سلطات الاحتلال التي تسبب سوء تعاملها مع باسل، وحبسه في العزل الانفرادي 6 سنوات في فقدانه الذاكرة، وتحطيم حالته النفسية؛ حتى أنه عندما أطلق سراحه عند حاجز الجلمة شمالي الضفة الغربية، لم يعرف أين يذهب، ولم يتحرك مطلقًا إلى أن جاء أحد المواطنين، ونقله إلى الجهة الثانية من الحاجز، حيث ينتظره أهله.
"كان يطلب إعادته إلى غرفته" في إشارة إلى زنازين العزل، كما يقول عمه.
ويضيف: في البداية لم يتعرف عليه أحد من أفراد العائلة، كما لم يعرف أحدًا منا، وكانت الفاجعة عندما رأته والدته زينة عيايدة وتعرفت على ابنها.
أما بشأن ظهور باسل وكأنه غير قادر على السير بعد إطلاق سراحه، أرجع ذلك إلى السلاسل التي كانت تقيد قدميه وساقيه على الدوام، حتى وهو في الزنازين.
وعندما استقبلته والدته وأفراد العائلة عند حاجز الجلمة بكى الجميع هناك، وأصيبوا بذهول من حالة ابنهم بسبب الانتهاكات البشعة التي تعرض لها في أسره، ولا زال الجميع يعيش تحت هول الصدمة.
عذابات راسخة
حتى رغم نقله إلى منزل العائلة في الخليل لم ينسَ عقله عذابات السجون والزنازين، ودائمًا يردد كلمات تثبت مدى الآلام التي لاقاها في غياهب السجون، ومنها: السجان، الزنزانة، يضربوني، رجعوني على غرفتي (زنزانة عزل).
وتداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يوثق لحظة التقاء العائلة بابنها باسل، وقد ظهر مطأطئ الرأس، وعندما طُلب منه أن يرفع رأسه يأتيهم الرد: "لا لا لحسن يضربوني" في إشارة واضحة إلى حجم العدوان المتكرر والإذلال الذي تعرض له في سجون الاحتلال.
ويقول عمه: إن ظلم وقهر الاحتلال بحق ابننا وما تعرض له من عدوان وجرائم، لن يزيدنا إلا ثباتًا عن أرض فلسطين رغم كل الظروف.
وأضاف: إن حالة باسل تثبت بقوة بشاعة الاحتلال وعجز مؤسسات حقوق الإنسان عن الدفاع عن الأسرى.
وفي حالات مماثلة، لم يتمكن الأسر منصور الشحاتيت، بعد 17 سنة من الأسر في سجون الاحتلال، من معرفة والديه عقب تحريره في أبريل/ نيسان 2021.
وفي مايو/ أيار 2011، أفادت جمعيات مختصة بشؤون الأسرى أن الأسير "وديع خميس طمان" من مدينة خان يونس فقد الذاكرة بالكامل، وأصبح لا يعرف من حوله.
أما بالنسبة لباسل عيايدة، من المقرر أن يخضع لسلسلة فحوصات من أجل الاطمئنان على حالته الصحية، ومن ثم إخضاعه لعلاج طبي ونفسي واجتماعي أيضًا؛ منعًا لتفاقم حالته وحدوث مضاعفات جديدة.