وضع الدكتور عماد أبو الحسن كفه فوق الأخرى، ثم بدأ بالضغط بقوة على صدر نجله عبد الله (18 عامًا) المضرج بدمائه، محاولاً إجراء إنعاش قلبي له، رغم أن الأطباء أعلنوا استشهاده، إلا أنه استمر في المحاولة، حينما استشعر بحرارة جسد نجله، فتبادر لذهنه أنه لا زال يتنفس.

حتى الساعة الواحدة من فجر أول من أمس، جمعت سهرة مسائية الأب ونجله على شرفة منزلهما، في بلدة اليامون شمالي غرب مدينة جنين، يتبادلان الحديث الذي غلبهما فيه الصمت، ونظرات الوداع التي ارتسمت على ملامح "عبد الله" فلم يرَ والده بهذه الملامح من قبل.

قطعت أصوات إشعارات ورسائل قادمة من مجموعات التواصل الاجتماعي حوارهما، وبدأ نجله يتتبع أخبار رصد حركة خروج آليات من جيش الاحتلال ووصولها إلى حاجز "الجلمة" وقرية "السيلة الحارثية"، إلا أن مكثت بمسجد الفاروق بقرية "كفر دان" بجنين.

امتشق عبد الله سلاحه الذي كان بقربه، وانطلق بواسطة دراجته النارية تجاه قوات جيش الاحتلال، وخلفه جلس شقيقه الأصغر عاصم (15 عامًا)، لم يترك الشاب لوالديه سوى نظرة غريبة كانت أشبه بنظرة وداع سبقها بكلمات قبل ساعات، حينما وزع عليهم حلوى مستبشرًا بنيله الشهادة، فقال لهم: "قد يكون هذا يومي الموعود".

رصاصة غادرة

"تجمع مع الشباب هناك، ودخل في اشتباك مع قوات جيش الاحتلال، لكن قناصة الاحتلال كانوا يعتلون عمارة مقابلة، فأطلقوا عليه رصاصة متفجرة، اخترقت ظهره ومزقت أمعاءه وشرايينه، كان شقيقه الأصغر بجواره فصرخ عبد الله عليه، فحاول سحبه، وأخبرني أنه استشهد بين يديه ونطلق الشهادتين ثم سكنت أنفاسه" ينقل والده لصحيفة "فلسطين" ما روي له عن اللحظة الأخيرة في حياة نجله.

اقرأ أيضاً: جماهير جنين تشيّع جثمان الشهيد عبد الله أبو حسن

امتاز عبد الله بحب الكتابة، وكان والده معجبًا بأسلوب تفكيره: "كنت أطالع كلمات كان يكتبها، وأشعر أنها تخرج من مفكّر، أحيانًا يتحدث بطريقة تشعرني أنني أقف أمام رجل صاحب تجربة عتيقة، وفي نفس الوقت كان بسيطًا لا تفارق الابتسامة محيّاه، يتعامل بلطفٍ وكرم مع الجميع، ولو تفرغ للكتابة لكان موهوبًا، وكانت عباراته تتعلق بفلسطين وما يحب ويهوى".

حضرت حديثه الدموع حينما استحضر الموقف الذي حاول فيه إنعاش قلب نجله "لست طبيبًا، فأنا أدرس اللغة العربية في الجامعة العربية الأمريكية وأحمل شهادة الدكتوراة، لكن لا يوجد أصدق من مشاعر الأبوة التي غلبتني وجعلتني أتقلد دور الطبيب مستعينًا بخبرتي في دورات الإسعاف التي حصلت عليها.

حينما يفقد الأب ابنه يفقد كل شيء، ولا يشابهه أي فقد، ما كنت أستطيع حبس دموعي، فالقلب يتصدع والنفس تحترق من الحزن".

من "كرم القدر" عليه، أن كان مجازًا يوم الخميس الماضي، فأمضاه مع نجله، حتى الساعة الواحدة من فجر الجمعة، "جلست معه وكان يبتسم ويضع سلاحه أمامه، رجوته أن ينام، لكنه أصر أن يبقى مستيقظًا وهو بالعادة ينام عندما تشرق الشمس، ويكون في حالة تأهب دومًا، طلب مني أن أكون راضيًا عنه، كان ينظر إلي بصمت، وكانت عيناه تبتسمان، وقال: "لا تحزن، لا تبكِ علي"، وهذه الجملة يكررها في كل مرة يخرج لملاقاة الجيش ويقول: "هذا يومي الأخير".

في نفس اليوم وزّع "عبد الله" الحلوى على أشقائه التسعة (5 ذكور و4 إناث) وطلب منهم الدعاء له، وقال: "فربما يكون هذا اليوم الموعود لي بالشهادة" كما قال.

يقفز أمام عيني والده لحظة ركوب نجله الدراجة: "نظر إلينا ثم رسمت محياه ابتسامة عريضة، وكانت ملامحه مختلفة لدرجة أنني شعرت أنه لن يعود، وكان لدى أمه الشعور ذاته، حينما رأته يودعنا بتلك الابتسامة الغريبة، حتى جاءت أخبار إصابته".

بطل "التايكواندو"

في فترة أزمة فيروس "كورونا" ترك "عبد الله" المدرسة، وتعلم "الحلاقة"، لكنه لم يكمل الطريق فيها، حاول والده، كما يقر، ثنيه عن طريق المقاومة خوفًا عليه، مستحضرًا تجربته في الاعتقال لدى الاحتلال سبع سنوات، والإبعاد عن جنين خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، وحينما تبين إصراره على المضي بهذا الطريق تركه.

تمتع "عبد الله" بجسد قوي وقامة طويلة، وهو أحد أبطال فلسطين في لعبة التايكواندو، ويلعب بمركز "عمرو" للعبة، ويحمل الحزام الأسود الدولي، وشارك في العديد من البطولات المحلية والدولية وحصل على ميداليات عديدة.

ونعى الاتحاد الفلسطيني للتايكواندو "عبد الله"، مستعرضا صوره وبعض البطولات التي حصل عليها، منها ذهبية بطولة مدارس فلسطين، وفضية بطولة النخبة الدولية في الأردن، وذهبية بطولة السفير الكوري، وذهبية تصفية أشبال فلسطين.

كان والده شاهدًا على حلم بطله الصغير: "كانت أبرز المسابقات بطولة عمان الدولية، التي حاز فيها على الفضية، في حين حصد شقيقه عاصم الذهبية، فهو منذ نعومة أظافره كان يحرص أن يكون قويًا، كان دائمًا يحلم بالقوة ويسعى إليها، مرة سألته: لماذا تلعب التايكواندو؟ فقال لي: "لأنها تمنحني القوة وتعطيني مجالًا للجهاد".

تحمل عبد الله في طريق تحقيق حلمه مصاعب كثيرة واجهته، فشُلَّت قدمه اليسرى بسبب خطأ طبي في عمر الـ6 أعوام، وفق والده، وظل سنوات يعالج وأجرى عدة عمليات جراحية، وقبل عام ونصف أجرى له عملية تصحيح العظام وزراعة عظام، وكان مقرر إجراء عملية جراحية له في مارس/ أذار الماضي.