في مخيم لا تتوفر فيه مساحات للعب إلا عبر شوارع وممرات ضيقة، ترعرع ميلاد الراعي (15 عامًا) وولد حلمه نحو لعب كرة القدم والغناء؛ بأن يصبح لاعبًا يمثل فلسطين ويحمل اسمها في المحافل الرياضية، وأن يغني لوجع اللجوء وحكاية التشرد وأنين شعبها.
بين أزقة مخيم العروب شمال مدينة الخليل جنوبي الضفة الغربية المحتلة، كبر "ميلاد" على وجع وألم عايشه، كانت فيه جنازات تشييع الشهداء ورصاصات جنود الاحتلال التي أرقت نومه أكبر من عدد مرات لعبه مع أطفال المخيم، فلطالما هرب الطفل ورفاقه في أثناء اللعب من شوارع المخيم مع مداهمة الجنود أروقته لاعتقال مواطنين.
لم يجد "ميلاد" ساحةً مثلى للعب، فكان شارع المخيم مساحة يجتمع فيها الفرح والحزن في آن واحد، ففيه يلعب الأطفال وتمر جنازات الشهداء، وهذا ما ساهم في صقل شخصيته فتولد من حنجرته إضافة إلى موهبة كرة القدم فن الغناء الوطني، فغنى للمخيم وللشهيد وللجريح، ومقاومة الاحتلال.
تحت المرمى
على مقربة من البرج العسكري الإسرائيلي الواقع على مدخل المخيم كان ميلاد ورفاقه يلعبون الكرة، وفي كل مرة يسجل فيها هدفًا في مرمى الفريق الآخر، كان هو تحت مرمى وأنظار جنود الاحتلال، وعندما اقترب من حلمه بأن يصبح لاعبًا محترفًا، كانت رصاصات البنادق المثبتة على البرج مجهزة لاغتياله وقتل حلمه وصوته.
يوم العاشر من سبتمبر/ أيلول 2023، أرسله والده في مشوار، وذهب الأب لصالون الحلاقة، لم يمكث عدة دقائق حتى رن هاتفه وكان نبرة صوت زوجته مختلفة عن أي مرة: "الحق ميلاد، متصاوب".. كانت كلماتها مثل طلق ناري أصاب قلبه، وبينه وبين نفسه شيع ابنه شهيدًا.
بين تضارب الأنباء على أي مشفى أسعف طفله، عاش والده منذر الراعي لحظات صعبة بين خوف وتوتر، حتى قادته المعلومات إلى أن ابنه يوجد بمستوصف في إحدى القرى المجاورة.
يتكئ وجعه على آخر صورة لطفله طبعت بذاكرته وهو يروي لصحيفة "فلسطين" قائلًا: "وجدت الأطباء يحاولون إجراء تنفس صناعي له، بعد تعرضه لرصاصة متفجرة بالظهر اخترقت الرئتين والكلى، حتى سكنت روحه وفارق الحياة".
ورث الطفل حب الغناء عن والده، بنبرة أضعفها الحزن يقول الراعي: "كان ميلاد مهتمًا بكرة القدم وفن الراب السياسي الرافض للاحتلال، ملتزم بصلاته محبوب عند الناس، تسبقه ابتسامته".
"جزء من الغناء ورثه مني وجزء من الواقع، فمواقع التواصل أصبحت إحدى مساحات التأثير، حاول توظيف صوته في خدمة وطنه والدفاع عنه، لم يكن لدينا مسرح لتطوير الفن والاهتمام به أكثر، فاعتمد على المبادرة الفردية في الغناء" كان المعزون يقطعون حديث والده وسط تزاحم الذكريات.
انتمى ميلاد لفلسطين التي حملها بصوته، في مقطع مرئي يغني: "رغم الألم، رغم الجرح، رغم كل شيء بصير، أنا أكبر من كل المحن أنا حابب أصير، يمكن صح ويمكن أكون في الأمل والحب كبير، أنا عايش في المخيم صابر ومتحمل كتير".
بكلمات عميقة المعنى ختم أغنيته معاهدًا أحلامه "مشان هيك بحلم أطير، بحلم أغني وبحلم أنافس، أنا إنسان في قلبي الخير، السماء إلي والبحر إلي، اسأل أمي وأبوي هيك بقولولي وأنا صغير".
هنا غنى عن رحيله وكأنه كان يعرف أنه الهدف القادم "هذا عدوي واللي بحكي فيه مش قليل، فش حرية وين: رايح ووين جاي، بده يطخك الاحتلال.. هان خلصنا بسلام".
آخر مشهد
عن طريقة قتله، يحرك صوته تفاصيل نقلها عن شهود عيان: "صلى المغرب وتوجه بعدما أرسلته في مشوار لناحية البرج العسكري، فأطلقوا عليه الرصاص، حاول الركض والتواري عن الجنود فسقط أرضًا ونقل إلى المشفى".
في بيت العزاء، تجلس جدته "أم حاتم" التي يناديها الطفل بـ"يما" حبيسة الدموع باهتة الملامح، لا تقوى على الكلام بعدما ودعت حفيدها الذي ربته بعمر عام وثمانية أشهر، يعلق والده "أمي هي أمه، فهي من ربته وسهرت على رعايته، كبر في حضنها، كان قطعة منها، وكان رحيله بمثابة "شجرة قطعت من جذورها".
يكوي الفقد صوتها، بالكاد تمالكت نفسها وتحدثت بصوت تبلله الدموع: "سميته ميلاد، هو حبيبي وحياتي. قلت له تعال أشوفك بالليل لكنه رحل".
شجعت الجدة الطفل على حلمه بأن يصبح لاعب كرة، ومنشدًا للوطن، وغرست فيه حب القرآن والصلاة، حتى كبر الحلم وانتمى لنادي شباب العروب الرياضي، وانتظر والده ثمرة الغرس، وفي غمرة الانتظار داهمه القتل، ورحل "ميلاد" شهيدًا، وترك والده غارقًا في وجع الفقد يرثي رحيله "لا نملك إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، فراقه صعب ومؤلم. قتلوا ابني ومات حلمه".