هناك رجال لا يقودون، بل يتقدمون الصفوف، وفي ساعة الحسم الفارقة لا يقود إلا هم. كان البراء بن مالك شغوفًا بالحرب، فارسًا يعيش في قلبها الصاخب بالدم وقعقعة السلاح وصياح المجروحين والمستنفِرين، وكان إذا حضرته الحربُ ارتجف بدنُه، وأخذته رِعْدة، وانتفض حتى يضبطه رفاقه فيفيق كأنه أسد يسُوق نفسَه سوقًا شديدًا.
وكان له صوت رخيم يترنّم به ويتغنّى بما يثبّته، ويحدو بالإبل حتى تمتدّ أعناقُها من شدة إسراعها تأثرًا بحدائه النقيّ، وكان أخوه أنس بن مالك إذا راجعه في ذلك قال له بثقة إنه لا يموت على فراشه. ولمّا انكشف جيش المسلمين يوم اليمامة لم يُرَ أبو دجانة إلا مقبلًا، يختال في مشيته على سجيّته، وانغمس في نحور الأعداء من بني حنيفة، حتى كُسرت رجله، فما توقّف عن المُسايفة والطِّعان حتى حُشر العدوّ في حديقتهم المحصّنة، ثم طلب من رفاقه الثابتين أن يلقوه إلى الحديقة على ترسة ليشاغلهم حتى ينفتح الباب للمهاجمين، فحملوه على أكتافهم وقد ترّسوه بدروع الجلد ورموه من فوق سور الحديقة، وكان معه البراء بن مالك وعبّاد بن بِشر، وهو يقول: لا ينجيكم منا الفرار!
ويقولون إن مدد الخليفة أبي بكر بإمارة أسامة بن زيد لمّا وصل إلى جيش خالد بن الوليد في اليمامة، عزل خالدٌ البراءَ بن مالك عن فرقة الخيّالة وسلّمها لأسامة لخوف خالد من مغامرة البراء وإقدامه وحرصه على الموت، فاشتدّت الوطأة على المسلمين وانكشفوا، فصاح الجند في خالد بن الوليد أن يردّ عليهم البراء بن مالك، فعزل أسامةَ، وردّ الخيلَ إلى البراء، فقال للبراء: اركبْ في الخيل!
فقال البراء: وهل لنا من خيلٍ، قد عزلتَني، وفرّقتَ الناسَ عني! فقال له خالدٌ: ليس حينَ عتابٌ، اركبْ أيها الرجل في خيلك، أما تَرى ما لَحَمَ من الأمر!! ركب البراء فرسه، وإن الخيل لأوزاعٌ متفرقة في كل ناحية، ولا يرى الناسُ إلا الهزيمة، فجعل يُلِيح بسيفه، وينادي: يا صحابةُ! يا لَلأنصار، يا للأنصار، يا خيلاه يا خيلاه! أنا البراء بن مالك، فثابَتْ إليه الخيلُ من كل ناحية، وثابت إليه الأنصار فارسُها وراجلُها كأنهم نحلٌ حول يعسوبهم!
أمثال هذا الرجل قد أعدّوا لأنفسهم منزلًا عند ربّهم، فكانوا يسارعون إلى لقائه، لا يشغلهم شاغلٌ عمّا يقصدون الوصول إليه، حتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من ضعيفٍ مُستضعَف ذي طِمْرين لو أقسم على الله لأبرَّه منهم البراء بن مالك.
وكانت لحظة اللقاء المنتظرة في "تستر" مع النعمان بن مقرّن المزنيّ، حيث انكشف المسلمون هناك فقالوا له: يا براء إن النبي قال لو أقسمت على الله لأبرّك فاقسِم على ربك! قال: أُقسِم عليك يا ربّ لَمَا منحتَنا أكتافَهم فمنحوا أكتافهم. ثم خشي البراء على نفسه الشهرة لمّا اشتهر أمرُه بأنه مبرور القَسَم فأقسم على الله أن يُلحقه به، فما لبث حتى ارتقى... صدَقوا الله فصَدَقهم.