كان التعرف على الوالد بالنسبة لـ"عدن الردايدة" صراعًا مريرًا خاضته مع الظروف الصعبة التي وجدت نفسها فيها، في ظل احتلالٍ إسرائيلي يواصل سجن والدها للعام الثاني والعشرين تواليًا، ليحرمها منه منذ كانت تبلغ الأربعين يومًا فقط من عمرها.
ووقت أن كبُرت "عدن" وأصبحت أسرتها تصطحبها معها لزيارة والدها "محمود" المحكوم بالسجن المؤبد إضافة إلى 25 عامًا. كانت الرهبة سيدة الموقف فلم تعِ بتفكيرها الطفولي أن هذا الرجل هو والدها، "كانوا يسمحون للأطفال بالدخول إلى زنزانة آبائهم واحتضانهم، كنتُ أرفض فأنا لا أعي مَنْ هذا الرجل".
وتضيف: "بعد أن تجاوزتُ العاشرة من عمري وأصبحت أعرف أن هذا والدي وأنه أسيرٌ لدى الاحتلال، صرتُ أعدُّ الأيام من الزيارة للزيارة التالية، كنتُ أصطدم أحيانًا على الحواجز الإسرائيلية برفضي أمنيًا وعدم السماح لي بالدخول مع أشقائي وأمي وإجبارهم لي للعودة من حيث أتيت".
وتتابع: "كنتُ أنهار بالبكاء، إذ تُضطر أمي إلى أن تُرسلني للمنزل وتواصل طريقها للقاء أبي، حتى الآن ما زلت أجهل الخطر الذي كنتُ أمثله كطفلة صغيرة على دولة الاحتلال لتحرمني من دقائق قليلة ألقى فيها أبي، لتضاف إلى اثنين وعشرين عامًا حتى الآن".
ولم تكن أي مناسبة سعيدة أو شهر رمضان أو مواسم أعياد وحتى المدارس والجامعة أمورًا سهلة على نفس "عدن" وهي محرومةٌ من وجود والدها (51 عامًا) معها في كل مراحل حياتها، "كنتُ أتمنى أن يرافقني لمدرستي وجامعتي، وأن أقبل يده في الأعياد لكنها كلها جميعًا أحلام مؤجلة".
اقرأ أيضًا: 4 أسرى يدخلون أعواماً جديدة في سجون الاحتلال
همُّ "عدن" وأشقائها الأربعة أثقل كاهل والدتهم "بسمة" التي حُرمت من زوجها وهي في "عز شبابها" تاركًا خلفه خمسة من الأبناء أكبرهم علي (11 عامًا) وأصغرهم "أنا عدن.. وكانت ربة منزل لا تعرف شيئًا عن العالم في الخارج وكيف يمكن أن تربي وحدها هؤلاء الأطفال؟".
إهمال طبي
تقول الأم مستدركة: "لكن الله سخّر لي عونًا من أهله وأهلي ساعدوني في تربية الأبناء والوفاء بمستلزماتهم، حتى تخرج ثلاثة منهم من الجامعة، فيما تقارب عدن على التخرج، وزوجتُ ثلاثة منهم وأصبح لديّ أحفاد".
ولكن بُعد الزوج والأب لم يكن سهلًا بالنسبة لي أو لهم، "لقد احتاجوا الكثير من الوقت لفهم سبب بُعد والدهم عنهم، وكلما كبروا ازدادوا تعلقًا به وأصبح حلمهم أن يروه بينهم محررًا، فقد مرّت كل المناسبات السعيدة عليهم بدونه، مريرة".
وما يؤلم قلب "بسمة" رؤيتها لحال زوجها في السجن الذي بدأت الأمراض تغزو جسده حيث أصيب بـ"ضغط الدم" و"الشقيقة" فيما يعاني كغيره من الأسرى "إهمالًا طبيًا" وحرمان من الدواء، ووصل به الحال أنه يصف لي ما يتعرض له من آلام ويوصيني بأن أسردها على ابن شقيقتي الطبيب كي يُشخص حالته الصحية، والأدهى والأمر أنه حتى لو تم تشخيصه أنه لن يستطيع الحصول على الدواء، فلا تعطيهم إدارة السجون سوى "الأكامول".
وتشير إلى أن زوجها تأثر نفسيًا بعدم قدرة والديْه على زيارته لظروفهما الصحية الصعبة حيث أنهما منذ عشر سنوات لم يتمكنا من زيارته، "يظل باله مشغولًا بهما وهو دائم السؤال عنهما".
أما شقيقة محمود (فاطمة الردايدة) فلا يزال مشهد محاصرة منزل عائلتها واعتقال شقيقها بعد مُطاردته ماثلًا أمام عينيها، "لقد اعتدوا عليه بالضرب المبرح، ومنعونا من تقديم الماء له، كانت لحظات مريرة".
أما الأصعب من تلك اللحظات -وفقًا لفاطمة- فهو الحكم الكبير الذي أوقعوه بحقه وهو المؤبد وخمسة وعشرين عامًا، "لقد انهرنا بالبكاء، كانت فترة عصيبة جدًا، وبعدها أصبحنا نعاني من "الرفض الأمني" والمنع من الزيارة".
اقرأ أيضًا: عشرة أسرى في سجون الاحتلال يواصلون إضرابهم عن الطعام
الرفض الأمني
وتشير إلى أن الاحتلال سمح لوالدتها بزيارة محمود للمرة الأولى بعد سبع سنواتٍ من اعتقاله، "وهو حاليًا يمارس الرفض الأمني بحق أبناء شقيقي، فلا يسمح لهم بزيارته إلا مرة كل عام أو عامين".
ولكون الأسير انضم بعد الأسر لحركة "حماس" فإن عائلته ممنوعة من دخول مدن الداخل المحتل وخاصة القدس سواءً للعمل أو الصلاة، "يفرضون عقابًا جماعيًا على العائلة في محاولة لكسر معنويات "محمود".
وما يؤلم قلب "فاطمة" هو بكاء والدتها المستمر حزنًا على عدم قدرتها على زيارة ابنها، وشوقها الشديد له، "فلا يوجد على لسانها سوى سيرة محمود وشوقها له، ورغبتها في عناقه قبل أن يباغتها الأجل".
والحال هو نفسه لدى والد محمود الذي أصيب بالجلطة مؤخرًا من كثرة الهم والتفكير في "محمود" وعجزه عن زيارته، "لقد أضنى قلبيهما الشوق لابنهما".
وتبين "فاطمة" أن هيئة محمود تشي بما يحاول إخفاءه عنهم من تعب نفسي وجسدي، إذْ إنه يشغل وقته في المعتقل بالدراسة حيث حصل على الثانوية العامة وهو بصدد الحصول على درجة الماجستير، "أخبرني أنه إذا لم يتم الإفراج عنه بصفقة تبادل فإنه سيدرس الدكتوراه".