لا تقلّ حرب عام 1967 أهمّيّة بالنسبة لـ(إسرائيل) عن حرب عام 1948، بوصفها لحظة تأسيسية ثانية لها، فمن المؤكّد أنّ بقاءها ظلّ محلّ شكّ حتّى جاءت تلك الحرب الثانية، التي لم تكرّس فيها (إسرائيل) نفسها فحسب مبطلة بذلك الدعاية الصاخبة للنظام "الثوري العربي"، ولكنّها أيضاً أثبتت بذلك الانتصار الساحق والغريب لرعاتها الدوليين، ولا سيما القوّة العظمى الجديدة، وريثة الاستعمار القديم الولايات المتحدة الأمريكية، جدارتها بالثقة. وهي كأي حدث تاريخي، يحمل نقيضه في أحشائه، فبقدر ما كانت هذه الحرب فرصة للتحايل على أصل القضيّة الفلسطينية، فإنّها جدّدت القضيّة الفلسطينية بتصعيد مقاومة أبنائها، لكن هذا حديث آخر.
ثمّة نقيض آخر انطوت عليه هذه الحرب، لكنّه لم يكن نقيضًا من جهة تكريس (إسرائيل) لنفسها، فالحرب كانت تحمل في أحشائها مفهوماً خاصّاً "للسلام"، المفهوم الإسرائيلي الصرف "للسلام" مع العرب، الذي لا معنى له إلا التأكيد على الانتصار والبقاء الإسرائيلي، لا المجرّد، ولكن المتفوّق مقابل التخفيف من آثار هزيمة عام 1967، وهو ما عبّر عنه القرار "242"، والذي صارت صيغته الأثيرة "الأرض مقابل السلام"، وهي صيغة مؤكّدة للهزيمة، لأنّ الأرض، والحالة هذه، لا تُسترجع بالحرب، ولكن بالتعاقد مع الدولة المنتصرة، بمعنى أنّ العرب سوف يتفاوضون معها من موقع المهزوم، المقرّ بهزيمته الأبدية. سيكون ثمن الأراضي العربية، هو الاعتراف لـ(إسرائيل) بالبقاء الدائم على أرض فلسطين!
"السلام" الإسرائيلي، بحكم هذه الواقعة التاريخية الواضحة، مؤسّس على الحرب الإسرائيلية، أو بكلمة أخرى، على الانتصار العسكري الإسرائيلي. هذه الواقعة تفيد الحلّ العربي/ الفلسطيني، من التجربة الإسرائيلية، ومن منطوق التاريخ ومفهومه، والذي يمكن تلخيصه بإبطال اللعبة الإسرائيلية، القائمة على الانتصار العسكري المؤسّس "للسلام" الإسرائيلي.
اقرأ أيضًا: ألا يستطيع الشعب تجاوز القيادة الفاشلة؟
اقرأ أيضًا: الأزمة الإسرائيلية الداخلية.. بوصفها صراعًا على المكسب الاستعماري
نقض خطّة الحرب والسلم الإسرائيلية، هو نقض للوجود الإسرائيلي.
وقد أثبتت حرب عام 1973، أنّ المواجهة العسكرية الصلبة للعدوّ هي وحدها التي تُضعف ثقته بنفسه، وتقلّص من تمدّده، وليست حرب عام 1973 وحدها الدليل على ذلك، بل حتى تجارب الفلسطينيين وغيرهم في مقاومة العدوّ، فانتفاضة عام 1987، دفعت العدوّ للتفكير بإمكانية التسوية مع الفلسطينيين الذين لا يمكن له تصوّرهم سياسيّاً، لأنّ وجوده في الأصل قائم على نفي كينونتهم القومية، لكن المشكلة كانت من جهة منظمة التحرير، بالقطع مع الانتفاضة للاستعجال في تأسيس سلطة في ظلّ الاحتلال، لا بدّ لها وأن تنتهي على نقيض ما أرادته الانتفاضة، ثمّ كان انسحاب العدوّ من جنوب لبنان في العام 2000 فقط بسبب مقاومة مثابرة وطويلة النفس، ثمّ كان انسحابه من غزّة في العام 2005 بفعل انتفاضة الأقصى، ثمّ انغماسه في الحسابات المرتبكة إزاء المقاومة في غزّة، أو تجدّدها في الضفّة الغربية.
هذه مكاسب واضحة، ليست فيها هزيمة ساحقة للعدوّ، ولكن فيها الدليل العملي لإضعاف هذا العدوّ، وذلك فضلاً عن المكاسب المعنوية، التي ظلّ فيها الفلسطينيون يجدّدون ذاتهم مقابل الذات الإسرائيلية، ويفرضون بها مقولتهم من جديد، بعدما يسعى العالم في كلّ مرّة لإزاحتها، لا بالانتصار العسكري الإسرائيلي، ولكن بالسلام الإسرائيلي!
يتضح من هذه المفارقة الإسرائيلية، أنّ (إسرائيل) وإن أثبتت جدارتها للعالم بانتصاراتها العسكرية، فإنّها كانت تتمدد بالسلام المؤسّس على انتصاراتها تلك. بدأت القصة مع خطة روجرز، ثمّ مشاريع دولة فلسطينية في الضفة مطالع السبعينيات، ثم اتفاقية كامب ديفيد مع مصر أواخر السبعينيات، وصولاً لاتفاقية أوسلو، التي جعلتها (إسرائيل) جسراً لإصلاح علاقاتها مع العالم، واختراق العالم العربي تحديداً.
وهكذا، كلما قالت (إسرائيل) ثمّة هدوء، وهناك طرف فلسطيني نتحدث معه، والأمور قابلة للتسوية، كانت أكثر قدرة على التمدّد، وقد كانت معركة أيار/ مايو 2021، الدليل الواضح الجديد على أنّ إبطال دعاية الهدوء هذه، هو وحده الذي يستدعي للفلسطينيين من جديد التعاطف في العالم.
حديث بعضهم عن التعاطف الدوليّ مع الفلسطينيين، دون أخذ صمودهم ومقاومتهم بعين الاعتبار؛ حديث خرافة، ينقلب إلى الضدّ من مصلحة الفلسطينيين، فبداهة الحقائق في العالم أنّ لا أحد يمكنه رؤية ضحية لا تقول عن نفسها ضحية، فضلاً عن أن يتعاطف معها، والضحية لا تعبّر عن كونها ضحية بالعيش المستكين، القابل بواقع الحال للظلم الواقع عليها. أيضاً لا يكفي أن تصرخ بكونها ضحية، ينبغي أن تثبت فوق الصراخ أن الظالم قابل للهزيمة، وهذا الإثبات يكون بالصمود الطويل الذي تُجدّد فيه ذاتها، وتراكم فيه إنجازاتها بعرقلة تمدّد العدوّ وإبطال سحره، سحر الحرب والسلام!