فلسطين أون لاين

والدته زَفَّتهُ بـ"الورد والحِنّة"

محمد أبو عصب.. مشتبك رفض ترك البندقية وأوصى بـ"حماية الأقصى"

...
الشهيد محمد أبو عصب- أرشيف
نابلس-غزة/ يحيى اليعقوبي:

داخل غرفة العناية المكثفة، تربت أم الشهيد نادر الريان على كتف توأمها والدة محمد داود "أبو عصب" (20 عامًا) الممدد على سرير المشفى؛ لا يتحرك من جسده الساكن سوى نبضات قلب خافتة، يحاول طبيب إسعافه بعد إصابته بأحد عشر رصاصة خلال اشتباك مسلح مع قوة إسرائيلية خاصة فجر الثلاثاء الماضي في مخيم بلاطة بنابلس، ظلت متعلقة بخيط أمل رفيع أن يخرج من الغيبوبة، تتخيل رؤيته يفتح عينيه وتعود الابتسامة لتزين ملامحه.

صباح السبت، اتصلت "والدة محمد" على "أم نادر" تحاصرها المخاوف "بدي أطلع بدري على المستشفى، حاسة في اشي"، بمجرد أن وصلت وقفتْ في ذهول وصدمة لم تقل جملتها المعتادة حينما تصل سرير ابنها "صباح الخير يا عمري"، بتلك الكلمات التي كانت تتدفق من قلبها رغم أنها ترتد إليها خاوية بلا إجابة من ابنها الغارق في غيبوبته، وهي تراقب الأطباء يزيلون الوصلات الطبية، بعدما سكنت آخر أنفاسه، فارتمت على كتف شقيقتها لتسكب دموعًا حارقة ذرفتها هي الأخرى عندما ودعت ابنها نادر في 15 مارس/ أذار 2022.

بعد ساعات عادت الأم تحمل جثمان نجلها في سيارة الإسعاف يأتيها صوته القادم من الذاكرة وصورته أمامها عندما كان يغني لها "يا أم الشهيد رشي الورد والحنة"، تتساقط دموعها بخفة لتبلل جسده، تلسع الكلمات قلبها.

اقرأ أيضاً: "حماس" تنعى الشهيد "أبو عصب" وتؤكد أن المقاومة ستُفشل مخطَّطات الاحتلال

حملت الشقيقتان التوأمتان اللتان تشاركتا في الحزن والألم جثمان "محمد" وأمسكتا طرفًا من النعش وسارتا مع المشيعين لمواراته الثرى بجوار قبر ابن خالته وتوأم روحه "نادر"، هذا المكان الذي لم يقطعه محمد من الزيارة على مدار عام، وكان يتعهد له في كل مرة بـ "الثأر" له من جنود الاحتلال، حتى شهد أهالي "بلاطة" على بطولة سطرها أحد "أشرس المقاومين" في المخيم.

الاشتباك الأخير

مع حلول الواحدة فجر الثلاثاء الماضي، وبدء اقتحام المستوطنين لمقام "النبي يوسف" في نابلس، امتشق محمد بندقيته وذهب للتصدي للمستوطنين وفي أثناء انسحابه على دراجة نارية، طاردته قوات خاصة فاشتبك معهم وأصيب على أطراف "بلاطة"، ثم استمرت المطاردة وفق شهود عيان عندما انسحب لداخل المخيم تحديدًا أمام بيته، حتى خاض اشتباكه الأخير في الجزء الغربي من المخيم.

يسري الحزن مع صوت أمه المبحوح على الطرف الآخر من سماعة الهاتف تنصت صحيفة "فلسطين" لها: "قبل يوم من استشهاده جاءني صباحًا، لأنه مطارد وبدأ يغني لي: (يا أم الشهيد رشي الورد والحنة) ويوصيني بعدم البكاء عليه والرضا، تفاعلت معه وصورته بالهاتف وأخذت الأمر بنوع من عدم الجدية لأنه دائمًا يخرج من البيت للاشتباك وهو مطارد للاحتلال".

"صباح الخير يا أصيلة" بهذه الكلمات كان يتصل على والدته كل صباح، ثم يأتي للمنزل بعيدًا عن المراقبة ليغتسل ويتناول معها الإفطار ويغادر، وقبل يومين من إصابته جاء للمنزل، تروي أمه: "طلب مني مبلغًا ماليًا للذهاب في رحلة ترفيهية مع أصدقائه، مرّ خلالها على أحد الحواجز العسكرية الإسرائيلية، لكنه قدم وثيقة شخصية لشقيقه ولم يتعرفوا عليه، كنت قلقة من اعتقاله حتى عاد سالمًا".

في بكاء مبحوح تسقي الدموع صوتها عن لحظة الإصابة: "عاد إلى البيت فطاردته القوات الخاصة، ناديت عليه فلم يستجب لي، وكانت تحلق فوقه طائرة درون إسرائيلية، لكنهم استطاعوا محاصرته في الجزء الغربي من مخيم بلاطة وإطلاق 11 رصاصة على جسده معظمها في الجزء العلوي، في البطن والخاصرة ورصاصتان اخترقتا القلب".

والدة محمد التي انفصلت عن زوجها، كرست حياتها لرعاية أربعة أبناء، وعاشت معهم حياة صعبة في الإيجار، كان حلم ابنها أن يعيش بشقة "ملك"، حتى أنه جاءها قبل مدة وأوصاها لو استشهد أن تبقى البندقية أمانة معها أو تبيعها لتشتري بثمنها شقة، لكنها رفضت وصيته، تعلق: "قلت له إما أن أشتري شقة من تعبي وإما سنبقى هكذا".

 

عرض تسليم السلاح

قبل شهر وتحت ضغط الأهل من باب "الخوف" أبرم أبو عصب، كما تروي والدته، اتفاقًا مع جهاز وقائي السلطة بنابلس وسلم نفسه أسبوعًا، ثم عاد لعائلته بعد "تسوية ملفه" تخللها وعود بالتفريغ والتوظيف على كادر السلطة مقابل التخلي عن المقاومة، لكنه وبعد أسبوع أبلغ أمه بإلغاء الاتفاق، تستحضر صورته وصوته قال لي: "مش عاجبني الوضع هيك، أنا بدي الشهادة وعاد للمقاومة حتى استشهد".

عمل أبو عصب في تصليح السيارات، ثم تفرغ في عامه الأخير للمقاومة، فكان دائم الاشتباك مع المستوطنين وجيش الاحتلال، على حاجز "حوارة" في نابلس وفي التصدي للمقتحمين لمنطقة "النبي يوسف"، كانت وصيته لأصدقائه "حافظوا على الأقصى من بعدي".

بجوارها تجلس شقيقتها وتوأمها أم نادر الريان تواسيها في مصابها الذي تجرعت كأسه في 15 مارس/ أذار 2022 حين استشهد ابنها، وكانت شاهدة على أخوة وحب جمع الشهيدين نادر ومحمد.

بصوت ممتلئ بالحزن ترفدها ذاكرتها ببعض المشاهد من صداقة الشهيدين: "كانا يأكلان مع بعض، ويخرجان ويعودان معًا، يأتي محمد لبيتي وكأنني أمه، يرتديان من ملابس بعضهما، وعندما استشهد نادر، قال لي محمد: (روحي راحت مني يا خالتي)، ويتعهد بأخذ ثأره".

وأضافت "عندما سلمناه للسلطة قبل شهر، ورغم الوعود بالتوظيف وصرف راتب، رفض ذلك وعاد للمقاومة، وقال لي: "هذه مش عيشة" لم يرضَ بذلك الوضع".

اخترقت جسد نادر 12 رصاصة وجسد محمد 11 رصاصة، في مشهد يتجسد فيه المصير ذاته، اشتبك الأول بنفس الشارع الذي استشهد فيه الثاني بالمخيم، تستذكر استشهاد نجلها: "خرج من البيت صباحًا وقال لي: خمس دقائق وسأعود، وبعد دقائق رأيته منطلقًا على الدراجة النارية وتلاحقه قوات الاحتلال حتى دوت أصوات صلية رصاص فعرفت أنهم أعدموه".

المصدر / فلسطين أون لاين