كانت تبكي بلا دموع ويحترق قلبها ألمًا من الداخل، عندما عادت "أم خالد" زوجة الشهيد عبد الفتاح خروشة (49 عامًا)، إلى منزلها المدمر بعد تفجيره من جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي اقتحم مخيم عسكر شرقي نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة فجر أمس.
لم تبتعد أم خالد عن منزلها كثيرًا لحظة اقتحام قوات كبيرة من جيش الاحتلال للمخيم، إذ تخلله اشتباكات مع المقاومين والشبان، وإن لم تستطع رؤية منزلها رغم محاولتها ذلك، إلا أن صوت الانفجارات المتتالية دوت في قلبها، وأجّجت ذكريات قفزت صورها أمامها للحظات جميلة عاشتها بين تلك الحجارة على مدار ثلاثين عامًا منذ ارتباطها بالشهيد "عبد الفتاح".
ومنذ شهرين تلقت أم خالد أمر إخلاء للمنزل قسرًا، تمهيدًا لتدميره، كسياسة "عقاب جماعي" يستخدمها الاحتلال بحق عائلات منفذي العمليات الفدائية.
اقرأ أيضاً: بالفيديو الاحتلال يفجّر منزل عائلة الشهيد عبد الفتاح خروشة في نابلس
حتى آخر لحظة، بقيت متمسكةً بمنزلها، رافضةً مغادرته حتى قبل عشرة أيام، لاستشعارها بالخطر على طفلتها، وإمكانية أن تأتي قوات الاحتلال بشكل مفاجئ لتفجير المنزل، فاستأجرت منزلًا وانتقلت إليه.
الصورة الأخيرة
الجمعة الماضية، غلبها الشوق فعادت أم خالد لمنزلها الواقع في الطابق الثالث بعمارة سكنية تؤوي 60 شخصًا بينهم 20 طفلًا، وأمضت يومها الأخير فيها، واختزنت ذاكرتها الصورة الأخيرة قبل المغادرة، وتفجيره.
بعينين تذرفان الدموع خرجت من منزلها، وألقت آخر نظراتها على تلك الحجارة التي شهدت على حياة جميلة عاشتها العائلة هنا، قبل أن يفرقها الاحتلال بسياسة "العقاب الجماعي"، إذ يعتقل ثلاثة من أبنائها، وهم خالد ومحمد منذ خمسة أشهر وابنها قسام منذ أربعة أشهر.
تربط على جرح قلبها بكلماتٍ صابرة في مستهل حديثها لصحيفة "فلسطين"، تعلق بغصة قهر على مشهد الدمار الذي طال منزلها: "ذهبت مباشرة إليه بعد انسحاب جيش الاحتلال، كان المشهد مؤلمًا، عندما ترى تعب سنين عمرك، وآخر ذكرى متبقية مما بنيناه حجرًا حجرًا وخطوةً خطوة ينهار أمامك".
"تذكرت جلستنا مع زوجي الشهيد، في أثناء تلاوة القرآن وما كان يرويه لنا من قصص الصحابة والنبي، لمتنا مع أولادي الذين يعتقلهم الاحتلال الآن، شرفة منزلنا كانت تدخل الهواء"، تحاول لملمة المشاهد المتناثرة في زحام ذاكرتها.
وبالرغم من هدم الاحتلال المنزل الذي تعلقت فيه، إلا أن أظهرت ثباتًا بكلمات ممتلئة بالصبر وبنبرة ممزوجة بالتحدي قائلة: "الاحتلال هدم حجارة وهي مجرد أشياء مادية، لكن لم يهدم عزيمتنا وإرادتنا".
غادر ولم يرجع
ظهر 26 فبراير/ شباط 2023، خرج الشهيد خروشة من منزله لـ"البحث عن عمل" كما أخبرها يومها، علمًا أنه تحرر من سجون الاحتلال قبل شهرين ونصف بعدما أمضى نحو أربع سنوات.
عاشت "أم خالد" أيامًا عصيبة، وراوغ الأمل كل محاولاتها للوصول لخبر يطمئنها على زوجها على مدار عشرة أيام انقطعت فيها أخباره، حتى أعلن الاحتلال اغتيال منفذ عملية حوارة عبد الفتاح خروشة مطلع مارس/ آذار الماضي، بعدما نفذ عملية إطلاق نار أدت إلى مقتل اثنين من المستوطنين.
في تلك اللحظة، وقفت في ذهولٍ وهي تقرأ الخبر وتعيده مرة وأخرى، تتفقد الصور لعلها تكون "تشابه أسماء أو خطأ ما"، قبل أن تُسلّم قلبها لأمنية تأخرت ثلاثين عامًا عندما أخبرها في بداية حياتهما الزوجية أنه يريد "الشهادة"، ولم تدرِ أنّ أمله بتحقيق أمنيته لم يخفت بمرور السنين، عندما رأته مسجًى بدمائه.
لم تسلم "أم خالد" من ملاحقة الاحتلال بعد استشهاد زوجها، باعتقال أبنائها الثلاثة، مضيفة: "لا يهمني البيت بقدر متابعتي لأحوال أبنائي داخل السجون، فوضعهم صعب، وأتمنى أن يتحرروا قريبًا".