جاءت العملية الفدائية الفلسطينية في (تل أبيب) المفاجئة للاحتلال، لتعيد إلى الواجهة شبح العمل المسلح داخل فلسطين المحتلة، بعد أن ساد الاعتقاد في الأوساط الأمنية لدى الاحتلال أنه أصبح في مأمن، ولن تتكرر مثل عمليات نوعية كهذه، شهدتها (إسرائيل) في الأشهر الماضية، حين وصل المقاومون إلى عمق مدنها الكبرى، ونفذوا عمليات فدائية جريئة في الصميم هزت الكيان، وزعزعت استقراره وأمنه، وها هي تعود إلى الواجهة على يد منفذها الشاب الفلسطيني كامل أبو بكر من مدينة جنين، التي انطلقت منها شرارة الثورة في الضفة، لما يقترفه الاحتلال من مجازر يومية بحق الشعب الفلسطيني، فحسب مصادر عبرية، فإن الشهيد كان يحمل معه وصية مكتوبًا فيها أنه أراد الثأر لهجوم المستوطنين على قرية برقة شرق رام الله قبل أيام، ويبدو أنه كان متأثرًا لاستشهاد الشاب قصي معطان برصاص مستوطن، ولذا قرر الانتقام من الصهاينة، وهذه هي واحدة من عشرات بل مئات العمليات الفدائية المعنونة بالثأر للشهداء، أو الرد على إجرام الاحتلال وصلف قطعان المستوطنين في الضفة الغربية.
الضرر الكبير الذي لحق بالاحتلال سببه غرور قادتها الأمنيين باعتقادهم أن عملياتها الأمنية التي تنفذها في الضفة نجحت في إحباط المقاومة الفلسطينية، وتفاخرت بقدرتها على التقليل من وتيرة هجماتها، التي شملت كل أشكال المقاومة مثل الطعن وإطلاق النار والدهس، لكن جاءت العملية الفدائية لتعلن من جديد أن المقاومة لن تقف عند حد الإجراءات الأمنية الصهيونية، فعملية (تل أبيب) ليست العملية الفدائية الأولى، فقد تم استهدافها مرات عديدة، وفي أماكن مختلفة خلال الفترة الأخيرة من قبل المقاومة الفلسطينية، باستهداف كل جغرافيا فلسطين المحتلة، بدأت بمدينة بئر السبع جنوباً، المسماة العاصمة الاقتصادية للاحتلال، ثم انتقلت إلى مدينة الخضيرة، والقدس، و(تل أبيب)، وبني براك، وديزنكوف، واللد، والجليل، وإن هذا التوزيع الجغرافي لخريطة العمليات الفدائية والتنقل للمقاومين بسهولة وأريحية، جعلا من الداخل المحتل بيئة خصبة لتكرارها، وقد كانت العمليات الفدائية على فترات متقطعة، فحيناً تهدأ قليلاً، ثم تعاود الكرة من جديد بإتقان المزيد من العمليات الجريئة، وهي رسالة جديدة من المقاومة مفادها أنها تستطيع الوصول والمساس بأكثر المناطق الصهيونية حيوية وحساسية.
اقرأ أيضًا: عملية (تل أبيب)
اقرأ أيضًا: عملية (تل أبيب) والاعتراف بالفشل
فانتقال العمليات الفدائية بصورة مفاجئة إلى الداخل المحتل، يعد ضربة من العيار الثقيل لأجهزة أمن الاحتلال التي ركزت كل جهودها الأمنية والعسكرية والاستخباراتية باتجاه الضفة، بهدف اجتثاث المقاومة من جذورها هناك، إذ إنه تفاجأ بعكس ذلك، على الرغم من كل ما تتخذه (إسرائيل) من احتياطات احترازية وتدابير أمنية، وتشديدات استخباراتية، وتعزيزات عسكرية لغاية وضع رجل أمن لكل متر مربع، بهدف منع عمليات المقاومين الفلسطينيين، إلا أن عملية (تل أبيب) أطاحت بكل منظومتها الأمنية وما رسمته من خطط فاشلة، وضربت كل الخطوط الأمامية للاحتلال، بوصول أبو بكر بسلاحه وذخيرته إلى قلب عاصمتها السياسية وقتل وإصابة عدد من الصهاينة، فهذا دليل قاطع على هشاشة الأمن الداخلي الإسرائيلي، الذي يديره المتطرف بن غفير وتصريحاته النارية بإطلاقه التهديدات تلو التهديدات ضد الفلسطينيين، ويقود المستوطنين كل صباح لاقتحام المسجد الأقصى، وأيضا تعد فشلًا للمنظومة الاستخباراتية الإسرائيلية بكاملها، التي أصبحت عاطلة وعاجزة عن التنبؤ أو إعطاء أي إشارة أو تحزير لاحتمالية وقوع هجمات فلسطينية، لأن عملية نقل أو امتلاك السلاح والتدرب عليه تحت مظلة التعاون الأمني الجاري على قدم وساق بين السلطة والاحتلال كلها أمور تثير تساؤلات حول مدى الفشل الأمني من كلا الطرفين في الضفة الغربية.
إن عودة العمليات الفدائية في الداخل المحتل، يطرح سؤالا بديهيا: هل هذه العملية مؤشر على انتقال نوعي في أداء الفلسطينيين، الذين بدل أن تخبو هبتهم تزداد اتقاداً وقوة باستخدام السلاح في مدن المركز؟ من المؤكد أن المقاومين ليس في وارد حساباتهم قتل المدنيين، بعكس ما تقوم به قوات الاحتلال وقطاعات المستوطنين من مجازر يومية ضد الفلسطينيين، لذا فإن معادلة الرد أصبحت بالمثل، فشعور المستوطنين بالأمان والاستقرار لم يكن بالمطلق على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة، وفي أولويات هذه الحقوق زوال الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ومع الكثافة العالية في العمليات الفردية على مدار العامين من عمر هذه الهبة، يمكننا القول إننا كنا وما زلنا أمام حالة أكبر من أن تكون مجرد طفرة، بدليل توسع المقاومة لتشمل مناطق الداخل المحتل.
لعل الرسالة المهمة من عملية (تل أبيب) التي يجب أن تقرأها السلطة بتمعن أن انتقال العمليات من الضفة إلى الداخل المحتل هو رسالة واضحة لأجهزتها الأمنية، التي امتهنت التنسيق الأمني مع الاحتلال ولا تتخلى عن سياسة “الباب الدوار” لما تقوم به من اعتقالات سياسية ومداهمات يومية، سعياً منها لقمع المقاومة بيد من حديد، وفعل كل ما هو في مصلحة الاحتلال ضد شعبها برفضها كل شكل نضالي، متجاوزة التصورات الرومانسية وأوهام المفاوضات السلمية، لكنها لم تقرأ المزاج الشعبي الذي يلتف حول المقاومة بديلًا عن فريق المساومة، وقد عملت العمليات الفدائية على إجهاض تلك التصورات وبددت الأوهام، التي تعني في مضمونها إنهاء المقاومة، إذ إنها استطاعت تثبيت معادلة الرد على عدوان الاحتلال ومستوطنيه، وتدفيعهم ثمن جرائمهم وعدوانهم على شعبنا ومقدساتنا.