يبذل مراد الصوالحي "33 عاماً" كل جهده لئلا يتخلف عن أي موعد زيارة لشقيقه الأسير "فهد"، وهو الذي لم يستطع أنْ ينسى "حلاوة ثلاث سنين" جمعتهما في زنزانة واحدة، على الرغم من مرارة ظروف الاعتقال، إلا أنها أطفأت بعضاً من شوقه لشقيقه الذي يقضي حكماً بالسجن سبع مؤبدات وخمسين عاماً.
نعمة ونقمة
فرغم أن الاعتقال هو ابتلاءٌ بنظر الناس جميعاً، إلا أنه كان نقمة ونعمة في الوقت ذاته بالنسبة لـ "مراد"، كونه قضى ثلاث سنوات من أصل ست في زنزانة واحدة مع شقيقه "فهد"، الذي اعتقل عندما كان هو في الثالثة عشرة من عمره.
فالسنوات الثلاث التي قضاها في المعتقل بعيداً عن شقيقه كانت صعبة ومؤلمة، أما الثلاث الأخرى التي اقتسم فيها "العيش والملح" مع فهد لم يكن يرغب بأنْ تنتهي، وسكن الحزن قلبه عندما شارفت على الانتهاء، "كانت فرصة لا تعوض للعيش بجانب شقيقي، اعتدتُ عليه واعتاد عليّ، وأخشى ألا نجتمع ثانيةً لطول مدة حكمه".
ولمعرفته بظروف الاعتقال المريرة التي يعيشها الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، و"الإهمال الطبي" الذي يقاسي شقيقه من آثاره حتى اللحظة، فإن "عقله وقلبه" يظلان معه، "فتجدني حريصاً على زيارته في كل موعد زيارة حتى أنّ شقيقتي لديها تصريح زيارة، فأطلب منها أن تستريح وأذهب بدلاً منها".
ويتابع:" يكفي أن شقيقي قد قضى عشرين عاماً من عمره في السجن حتى اللحظة، كنا صغاراً، كبرنا وتزوجنا، وأبناء شقيقاتي تزوج بعضاً منهم، وهو لا زال في غياهب السجون، أقل ما يمكن أن نقدمه له أن نتجشم عناء الطريق، وتعب الزيارة في ظل منغصات الاحتلال لنرى وجهه ونطمئن عليه".
آلام شديدة
ويشير مراد إلى أن "فهد" أصيب بالرصاص في قدمه، وكسرٍ في يده أثناء اعتقاله، وبسبب الإهمال الطبي الذي تعرض له فإنه لحتى الآن يعاني آلامًا شديدة فيها، ولا يوجد لدى الاحتلال أي علاج سوى "حبة الأكامول".
وما زاد وجع "فهد" أن زنزانته قد احترقت في أثناء عزله انفراديًّا، فأصيب بحروق بليغة في يديه، ما زال يعاني أثرها حتى اللحظة، حيث لم يتعامل معها الاحتلال بالعلاج المناسب، واكتفوا بتقديم علاج سطحي لها.
أما والدة الأسير فهد، باسمة الصوالحي، فيعتصر الألم قلبها إذ أصيبت بالشلل وأصبحت طريحة الفراش منذ أربعة أعوام خلت، فلم تعد تستطع زيارته أبداً، كما أن زوجها أيضاً كبير في السن ولا يستطيع زيارة ابنه.
وفي فراش مرضها تبقى الصوالحي متأهبةً طوال يوم الزيارة المحددة لـ "فهد" تنتظر أن يعود مراد أو نمر أو نادية (أشقاؤه الذين يزورونه عادةً) ليرطبوا قلبها بأخبارٍ عنه، تسألهم عن أحواله وكيف أصبح شكله؟ وهل ينقصه شيء؟، "يطمئنوني عادةً، لكن قلبي لن يطمأن إلا برؤيته في حضني حراً طليقاً في صفقة تبادل مشرفة بين المقاومة والاحتلال".
وتستذكر الصوالحي طفولة وشباب "فهد" الذين كان في الثامنة من عمره يشارك في إلقاء الحجارة ضد قوات الاحتلال، ثم في شبابه أصبح يقاوم الاحتلال بالرصاص وتصنيع العبوات الناسفة إلى أن اعتقل في عام 2003م في إثر اشتباك مسلح عنيف خاضه وعددٌ من المقاومين ضد قوات الاحتلال في مدينة طولكرم، حيث كان مختفيًا عن بيت عائلته منذ وقت طويل لكونه مطارداً.
وتعرض فهد لمرحلة صعبة من التحقيق إلى أن حُكم عليه الاحتلال بالسجن سبع مؤبدات وخمسين عاماً، وتذكر الصوالحي لحظة إعلان قاضي الاحتلال الحكم، حيث وقف "فهد" شامخاً مخبراً القاضي أنه إن كان يندم على شيء، فإنه يندم على أنه لم يقتل مزيداً من جنود الاحتلال، الأمر الذي أثار حفيظة القضاة.
ومنذ ذلك الوقت والصوالحي ظلّت حريصة على ألا تفوت أي زيارة لابنها رغم العناء الشديد الذي يصيبها من جراء إجراءات الاحتلال التعسفي، "رغم أن أبنائي كانوا يلحون عليّ بألا أذهب لما يرونه من معاناتي الصحية بعد الزيارة، لكنني لم أكن أستطع ألا أرى (فهد) إلى أن أقعدني المرض وأصبحتُ طريحة الفراش".
وأكثر ما يؤلم قلبها الإهمال الطبي والعزل الانفرادي المتكرر الذي يتعرض له ابنها، "قد عزلوه ثلاث مرات، أطولها كانت مدة عامٍ كامل، تعرض خلالها لحروق بليغة".
ولكنّ ما يسلي قلبها بأن "فهد" عاد للدراسة التي تركها منذ المرحلة الإعدادية، حيث حاز على درجة البكالوريوس في التاريخ، وأصدر مؤخراً كتابه الأول بعنوان "النذير"، يروي فيه قصة نضاله منذ صغره وحياته في الاعتقال.