لا شك أن أول ما كان يخطر في ذهن أي سياسي إسرائيلي عند إنشاء دولة الاحتلال كان الحلم بدولة صافية خالية من أية عناصر أخرى قد تخل بفكرة كون هذه الأرض "وطنًا خالصًا" لليهود، وهو ما قامت عليه الدعاية التي أطلقتها الحركة الصهيونية خلال فترة التحضير لإقامة الدولة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض). هذا هو الأساس الذي قامت عليه عمليات التطهير العرقي التي نفذتها (إسرائيل) عشية النكبة، وتحدث عنها غير واحد من المؤرخين -حتى الإسرائيليين- كإيلان بابيه وغيره.
إلا أن التجربة أثبتت أن حلم الدولة الخالصة لا يعيش إلا في مخيلة أصحاب هذا الحلم فقط، ذلك أن الشعب الفلسطيني لم يختفِ من فلسطين ولم يتمكن الاحتلال الإسرائيلي من إزالته من الوجود أو تغييبه طوال 75 عامًا، وهذا ما يعيه كبار الساسة والمحللون والمفكرون الإسرائيليون.
اقرأ أيضا: سياسة التهجير القسري سيف مسلّط على أبناء القدس
لعل هذا هو المنطلق الذي خرجت منه دعوات التعايش مع هذا الشعب ومحاولة احتوائه بعد فشل فكرة إزالته من الوجود، التي حملها تيار اليسار الإسرائيلي على مدى العقود الماضية، ليعود الأمر اليوم لنقطة حرجة مع صعود اليمين المتطرف بأفكاره الدينية المتطرفة. على أن فكرة احتواء الشعب الفلسطيني لا تزال موجودة وفعالة لدى أجهزة الدولة الإسرائيلية رغم سيطرة اليمين المتطرف على مفاصل الحكم في الحكومة الإسرائيلية، ولا يتوقع أن تزول هذه الرؤية قريبًا، خاصةً أن المؤسسة العسكرية والأمنية هي التي تحمل حاليا هذه الفكرة، وهي ما تشكل ما يمكن أن نسميه "الدولة العميقة" في (إسرائيل).
الأمر نفسه ينطبق على واقع مدينة القدس؛ فـ(إسرائيل) التي أشعلت حرب عام 1967 وسيطرت على شرقي القدس بالكامل في تلك المرحلة، كانت تفكر جديا بداية في تغيير الطابع الديموغرافي في المدينة وطرد المقدسيين نهائيا منها عبر إعلانها ضم الأرض من دون السكان، واعتبار المقدسيين أجانب مقيمين في المدينة المقدسة مؤقتًا بسبب الظروف السياسية.
منذ ذلك الوقت، عملت (إسرائيل) في البداية على محاولة استبعاد أكبر كمية ممكنة من المقدسيين من المدينة ابتداءً خلال عدوان 1967 التي كانت تأمل فيه طرد الفلسطينيين إلى دول الجوار كما جرى في النكبة عام 1948، لتفاجأ ببقاء السكان في أراضيهم والتزامهم بعدم المغادرة، مرورا بهدم أحياء كاملة وتهجير سكانها بالقوة كما جرى في حارة المغاربة عام 1967، وليس انتهاءً بسن قوانين الإقامة المعقدة في المدينة المقدسة، التي هدفت منها (إسرائيل) إلى إشعار الفلسطيني بأنه غريب في مدينة القدس ولا ينتمي لها بحال، وبالتالي دفعه إلى المغادرة بحثًا عن الهدوء.
كان واضحًا منذ البداية فشل هذه الاتجاهات الثلاثة التي عملت عليها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة؛ فالمقدسيون زادت أعدادهم بدل أن تقل، وزادت نسبتهم في القدس مقارنة باليهود بدل أن تنخفض، مما دعا (إسرائيل) إلى إطلاق إستراتيجيتها المتمثلة في الحرص على ألا تزداد نسبة السكان الفلسطينيين في القدس، أي وقف الزيادة فقط، بعد الفشل في خفضها على المستوى العددي.
لكن أكبر ما واجهته (إسرائيل) من نتائج لسياساتها في القدس كان تحويل المقدسيين إلى طعنة في خاصرة الدولة، فهم ليسوا مواطنين فيها، ولا ينتمون إليها لا قانونًا ولا حكمًا، وهم مضطهدون في مدينتهم لا يشعرون بأن حياتهم فيها طبيعية بحالٍ من الأحوال، والاحتلال الذي يعيشونه يختلف في شكله عن الاحتلال العسكري المباشر في مناطق الضفة الغربية حولهم، ويختلف عما عليه الأحوال لدى فلسطينيي الداخل المحتل الذين يحملون ما تسمى "الجنسية الإسرائيلية" ويعتبرون -رغما عنهم- "مواطنين" في هذه الدولة.
في الوقت نفسه، فإن كون المقدسيين يعيشون في القدس ويحملون بطاقة "الهوية الإسرائيلية الزرقاء" (رغم كونهم غير مواطنين في هذه الدولة)، يجعلهم يتمتعون بحرية الحركة بين الضفة الغربية ومناطق الداخل المحتل، وهو ما جعل استعداءهم واضطهادهم على مدار العقود الطويلة الماضية يأتي لـ(إسرائيل) بنتائج أقل ما يقال عنها إنها كارثية؛ فمن السذاجة أن يتوقع الساسة في دولة الاحتلال أن يعاملهم المقدسيون معاملة خاصة، أو ينظروا إليهم نظرة الانتماء أو حتى "الجيرة"، بينما يُمنَعون من البناء والتوسع في بيوتهم، وتُهدَم بيوتهم يوميا أمام أعينهم، ويُحرَمون من أقل حقوقهم البشرية في التنقل بحرية في مدينتهم والانتماء إليها كما كانوا على مدى آلاف السنين.
لعل أغرب ما تفتقت عنه الذهنية الإسرائيلية المتعجرفة في هذا الصدد هو ظن ساسة الاحتلال ومنظريه أن بإمكانهم الآن بعد عشرات السنين من الاضطهاد أن يقوموا بعملية "غسيل دماغ" سريعة للمقدسيين، حيث بدأت منذ فترة قصيرة تظهر بعض المظاهر التي تحاول من خلالها الحكومة الإسرائيلية "احتواء" المقدسيين وإجراء عملية "تطبيع" معهم.
فقد بدأت سلطات الاحتلال محاولة تخفيف إجراءات المراجعات الحكومية التي كانت على الدوام مصدر إرهاقٍ للمقدسيين، مثل عمليات وزارة الداخلية الإسرائيلية ومعاملات مؤسسة "التأمين الوطني" وغيرها، التي كانت إلى زمنٍ قريبٍ تعد مصدر تعبٍ وإرهاقٍ شديد للمقدسيين، فقد كان مجرد دخول مبنى وزارة الداخلية الإسرائيلية لإجراء أية معاملات تتعلق بالمقدسيين (مثل تجديد الهوية المقدسية أو تسجيل الأولاد أو غير ذلك) يعد إنجازا يتم التخطيط له على مدى أيام وربما أسابيع، وكان ذلك يتطلب من المقدسي الوقوف في صفوف طويلةٍ طوال الليل أمام بوابات مكاتب وزارة داخلية الاحتلال ليتمكن من الدخول، ليتغير ذلك كله حاليا وتصبح العملية ميسرة وسهلة نسبيا.
ثم يأتي إعلان سلطات الاحتلال مؤخرا تخصيص 450 مليون شيقل (نحو 126 مليون دولار) سنويا لتمويل منح دراسية للطلبة المقدسيين في مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية. وهذا الإعلان -للمفارقة- يثير جدلا حاليا داخل الحكومة الإسرائيلية نفسها، حيث يرفضه وزير المالية الإسرائيلية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش عن تيار الصهيونية الدينية، ويتعرض بسبب رفضه إلى ضغوط من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية -وعلى رأسها الشاباك- للموافقة على البرنامج وعدم شطبه من الميزانية، بدعوى أهميته في "أسرلة التعليم" في القدس و"تخفيف محفزات العنف" في المدينة من المجتمع المقدسي.
ويدل هذا التوجه على أن سلطات الاحتلال -في شقها الأمني على الأقل- تعلم أن خطط التخلص من المقدسيين وإلغاء وجودهم تماما من القدس باءت بالفشل، وأن أملها الآن معقود على تغيير عقلية المقدسيين وغسل أدمغتهم وتطبيع العلاقات معهم.
على أن نظرة سريعة فاحصة لهذا التوجه تبين فشله كذلك، فحتى الآن لا يستطيع رئيس بلدية الاحتلال في القدس فرض نفسه على المقدسيين رغم كافة محاولاته، وآخر الأمثلة على ذلك ما حدث في مجمع مول "الدار" التجاري في القدس، حين حضر رئيس البلدية لافتتاح محل في المجمع بالتنسيق مع مالك المجمع، ليعلن المقدسيون رفضهم هذه الخطوة، وتتفاعل القضية على أعلى المستويات في القدس وخارجها، لدرجة سكب المقدسيين الزيت أمام باب المجمع للتعبير عن رفضهم التطبيع مع بلدية الاحتلال، ومقاطعتهم هذا الافتتاح والقائمين عليه من المطبعين مع البلدية الإسرائيلية.
لا شك أن هذه المحاولات الإسرائيلية لاحتواء المقدسيين وتغيير طبيعتهم ستبوء بالفشل كذلك، فـ(إسرائيل) التي تحاول التقرب الآن من المقدسيين ببعض إجراءاتٍ تخفيفية وإغداقِ بعض المال والمنح والزيارات البروتوكولية هنا وهناك تغفل عن حقيقة مهمة، وهي أن المجتمع المقدسي يراقب ولا ينسى.
فـ(إسرائيل) التي تحمل الجزرة للمقدسيين تحمل العصا كذلك، وهي تحرص على أن تعامل المقدسيين في هذه العمليات بأسلوب "المقدسي المهذب" و"المقدسي غير المهذب"؛ فتحتفي بالمطبعين معها الذي يعتبرون أنفسهم "مواطنين" في (إسرائيل) رغم أنهم ليسوا كذلك حتى في نظر القانون الإسرائيلي نفسه، وفي نفس الوقت تخترع إجراءات في غاية الشدة والعنجهية للتعامل مع أي شخص يرفع صوته ضد الاحتلال، سواء بالمنع من دخول المسجد الأقصى المبارك، أو بالسجن، أو بالمنع من الحق في السفر، أو حتى بالإبعاد عن مدينة القدس كلها، ولا زالت سياسة هدم المنازل وتسليم بعضها للمستوطنين تسير كما هي من دون تغيير، بل تزداد فعليا.
ما تغفل عنه (إسرائيل) هنا هو أن المجتمع المقدسي مجتمع صغير، فأصحاب البيت الذي تهدمه بلدية الاحتلال لهم أقرباء من الدرجة الأولى تحاول (إسرائيل) استقطابهم بمنحةٍ دراسيةٍ هنا أو بحفلٍ صغيرٍ هناك.
والشاب الذي تعتقله أو تقتله سلطات الاحتلال له أقرباء وأصدقاء، ويكفي المقدسي أن يسير في شوارع القدس نصف ساعة لينهار أمام عينيه نموذج "الدولة اللطيفة" التي تحاول (إسرائيل) إقناعه بوجوده، عندما يرى المستوطنين يعتدون عليه، أو يتعرض للتفتيش والمضايقة أو دفع غرامة كبيرة من دون سبب، أو يرى بيتا يهدم بالطريقة العنيفة التي نشهدها يوميا في شوارع القدس؛ وهو الأمر الذي يحتم في النهاية على (إسرائيل) أن تعلم أنه لا مستقبل لمشروعها في القدس، ولا أفق له لا بالعنف ولا بالقوة، ولا حتى بالتطبيع.