لم يكن سعد الخراز (43 عاماً) يعلم أن زيارته السريعة والخاطفة لوالدته هي الأخيرة، إذ لن يتمكن بعدها من منح "والدته" قُبلة على كفيها، كما اعتاد في صبيحة كل يوم قبل أن يتوجه إلى عمله، ويسمع منها "الله يرضى عليك يما".
"انتظر يما بدي اعمل لك كاسة قهوة" تنادي الأم على ولدها "سعد" الذي ردَّ عليها "5 دقائق وراجع إن شاء الله"، لكن قدر الله كان أقرب إليه من ذلك الوقت الذي حدده للقاء أمه مرّة أخرى، فقد صعدت روحه إلى بارئها، ولا تزال "الأم" تنتظر لحظات العودة المفقودة.
عند الساعة السادسة صباح أول من أمس، همّ "سعد" بالخروج من منزله الواقع في منطقة جبل الطور في البلدة القديمة بنابلس في الضفة الغربية، وحينما اقترب من حاجز لجيش الاحتلال، باغتوه بإطلاق كثيف للرصاص صوبه واثنين آخرين، فاشتبك معهم حتى الرمق الأخير، حسبما يروي والده الشيخ ماهر الخراز.
اقرأ أيضاً: المبادرة الوطنية تدين جرائم الاعدامات الميدانية التي ينفذها الاحتلال ضد الفلسطينيين
ويقول الخراز لصحيفة "فلسطين": "يبدو أن الذخيرة لدى سعد وزملائه قد نفذت، ما أدى إلى ارتقاء الشبان الثلاثة بعد إطلاق النار عليهم من مسافة صفر"، وما زاد الغصة في قلب "الوالد المكلوم" هو احتجاز الاحتلال لجثامين الشهداء الثلاثة، وهو ما عده والد الشهيد سعد "عملية إعدام واحتجاز ممنهجة".
حالة من الصدمة عمّت أرجاء منزله وجميع أفراد العائلة بعد تلقيهم نبأ استشهاد "سعد"، وسماع بعض الروايات من شهود العيان، التي تشير بأن عملية إعدام بشعة وممنهجة نفذها جيش الاحتلال بحق "سعد" والشابين الآخرين معه، وفق ما يقول.
ويقص "الخراز" أن "سعد" لم يُدلي بنيته الشهادة قبل ذلك، ولا سيّما أن لديه أسرة مكونة من 5 أطفال، ويعمل في مجال تنجيد الكنب، "لكننا نؤمن بقضاء الله وقدره ونسأل الله له القبول".
كـ "الصاعقة" وقع خبر استشهاد "سعد" على العائلة حسبما يصف "الخراز"، ثم يُكمل "تألمنا كثيراً، ولكننا نؤمن بأن لكل أجل كتاب، فقد انتهى أجل سعد".
تبعثرت الكلمات لدى "الخراز" الأب الذي يعمل أمام مسجد منذ 47 عاماً، ويعاني مرض فقدان نسبة كبيرة من بصره دون أن يفقد بصيرته، فما كان منه إلا أن يتحدث عن مناقب نجله، "سعد محبوب ولطيف وبار لي ولوالدته".
لم يتقبل أطفاله الخمسة حتى الآن نبأ فقدان والدهم سعد، إذ إنهم يعيشون حالة من الصدمة، موضحاً أنه أنجب الطفلة "لين" قبل شهر تقريباً، التي حُرمت من والدها بفعل عدو متغطرس داس كل قوانين الرحمة والإنسانية.
وحسب ما يقول "الخراز" فإن نجله "سعد" كان نشيطاً خلال دراسته الجامعية في جامعة النجاح، إذ كان ينتمي إلى الكتلة الإسلامية فيها، عدا عن مشاركته في الانتفاضتين الأولى والثانية التي عاشهما الشعب الفلسطيني.
ويقول "الخراز" في صوت بدا عليه القوّة والتماسك: "أنا أتقبل التهنئة لا العزاء، فابني والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون".
ويرى أن تصاعد وتيرة الانتهاكات الإسرائيلية، والهجمة غير المسبوقة ضد الفلسطينيين، وبناء آلاف الوحدات الاستيطانية، والتضييق على المواطنين، والإعدامات الميدانية المباشرة "دافعاً كبيراً لمواجهة الاحتلال".
ويوضح أن "سعد" هو أسير سابق لدى الاحتلال والسلطة معاً، إذ إنه أمضى حوالي 4 سنوات من عُمره في سجون الاحتلال، وعدة أيام أخرى في سجون السلطة، حيث تعرض خلالها لتعذيب شديد جدًّا على أيدي أجهزة أمن السلطة.
ويشير إلى أن السلطة اعتقلت أشقاءه مددًا متفاوتة، وزجتهم في سجونها، وتعرضوا خلالها إلى تعذيب شديد، كاد أن يودي بحياتهم.
وعقب ارتقاء الشهيد "سعد" اعتقلت قوات الاحتلال شقيقه "طاهر" للتحقيق معه، حسبما يقول الشيخ "الخراز".
"من أمن العقاب أساء الأدب"، بهذه العبارة عبّر "الخراز" عن استنكاره الشديد لاستمرار جرائم الاحتلال في الأراضي الفلسطينية بحق المواطنين الآمنين تحت ذرائع ومبررات واهية، معتبراً سياسة احتجاز جثامين الشهداء "عقوبات جماعية بحق الأهالي".