فلسطين أون لاين

هل يدرك اليمين الصهيوني مآل التعديلات القضائية على الدولة؟

وُصفت المظاهرات التي اجتاحت المدن الإسرائيلية بأنها الأشد وطأة على البعد الوجودي للدولة بصفة عامة، ذلك بأن الأمر لم يقتصر على التظاهرات المدنية التي تحدث في كل دول العالم تقريبًا، ولكن ما صاحبها من استقالات على وجه التحديد لضباط وجنود جيش الاحتلال الذي يُعد العمود الفقري لاستمرار وجود الدولة، وبالرغم من كل تلك التظاهرات الصاخبة التي أشعلتها المعارضة فإن التعديلات في نهاية المطاف مُرِّرت وصدَّق الكنيست بالقراءتين الأولى والثانية على مشروع القانون، وأصبح جاهزًا للإصدار من رئيس الدولة.

التعديلات التي قام وسيقوم بها الكنيست استرعت انتباه الراعي الأول للاحتلال، بل أعلى رأس الهرم القيادي فيه وهو الرئيس بايدن الذي وجّه نداءً لرئيس الحكومة بضرورة الوصول لأوسع توافق قبل إقرار القوانين، إلا أن هذا النداء لم يجد له صدًى لدى الائتلاف الحاكم الذي سار قدمًا في تعديل منظومة التشريعات القضائية، الأمر الذي وصفه بعض المعارضين أو حتى بعض المحللين بأنه تفكيك للدولة. 

ما يحدث في دولة الاحتلال، والإدارة الأمريكية من إبداء كل هذا الاهتمام بما يحصل، يؤشر بوضوح إلى أن المجتمع الصهيوني عامة وقادة الرأي والفكر والنخب خاصة، وكذلك أصدقاء الكيان من الدول والمنظمات، يدركون جميعهم أن المس بدعائم دولة القانون التي أرساها بن غوريون سيكون نذير شؤم؛ ذلك أن تلك الدعائم سبب أساس في استمرار هذا الكيان الهجين من القوميات والإثنيات والثقافات، ولولا وجود هذا النظام القانوني والقضائي الصارم لما أمكن جمع كل هذه التناقضات القائم عليها الكيان في دولة واحدة. وإذن لحاولت منذ البداية كل إثنية أو عرفية أو طائفة أن تستأثر بالحكم دون غيرها، ولَأدى ذلك بالطبع إلى التناحر بين شتات القوميات والإثنيات والثقافات المكوِّنة للكيان وصولًا إلى الاقتتال والتفكك، وتلك حالة سائدة تعتري معظم الدول التي تتكون من طوائف وإثنيات وعرقيات مختلفة، وشاهدنا عبر التاريخ أمثلة على تفكك دول ونزاعات أهلية أدت إلى كوارث ومصائب ما زالت آثارها قائمة حتى الآن.

اقرأ أيضًا: مبدأ عدم المعقولية وانهيار الديمقراطية

اقرأ أيضًا: صوت التحريض العنصري يرتفع

ما سبق بيانه يضعنا أمام تساؤل كبير: هل عجز اليمين الصهيوني عن إدراك هذه الحقائق حتى يمضي قدمًا في تلك التعديلات التي أحدثت كل هذا الصخب الداخلي لدى الاحتلال؟ وهو الذي كان يسعى أولًا وقبل كل شيء إلى تأمين جبهته الداخلية ودعم صمودها حتى لا تهتز الدولة من الداخل خصوصًا في دولة قائمة على الحروب وتعيش وسط بحر معادٍ لوجودها في المنطقة. 

الجواب الذي أعتقده أن نتنياهو يعلم خطورة ما أقدم عليه جيدًا، هو والثنائي سموترتش وبن غفير؛ قادة الائتلاف الحاكم.

أجل إنهم يدركون تمامًا أنَّ تغيُّب القانون والعبث بميزان القضاء وتركيز الحكم بيد السلطة التنفيذية سيؤدي إلى غرس بذور الفرقة وسط المجتمع الإسرائيلي، ولكن يبدو أن اليمين قد حسم أمره بالسيطرة تمامًا على الدولة وإقصاء بقية القوة الليبرالية واليسارية باعتبارها من تسبب في زعزعة استقرار الدولة بعقد اتفاقيات مع الفلسطينيين، وتبني حل الدولتين، والانسحاب من المستوطنات -رغم أن من قام بذلك كان شارون وهو من قادة اليمين، ولكن بدعم من اليسار- الأمر الذي أسفر عن وجود مشكلة حكم وقوة حماس في قطاع غزة، واستلهام المقاومين في الضفة لنموذجها، وتآكل قوة الردع التي قام عليها الكيان، وذلك كله يعد من وجهة نظر اليمين خيانة لعهد الآباء المؤسسين، كما ورد غير مرة على لسان بن غفير وقادة اليمين الديني الصهيوني.

إذن المسألة بالنسبة إلى اليمين أصبحت تتجاوز قضية القيم الديمقراطية التي أُسست عليها الدولة، ولكنها قضية الحفاظ على وجود الدولة نفسها من خلال العودة للفكر الصهيوني الأول الذي نشأت عليه دولة الاحتلال، وهو إنكار وجود الشعب الفلسطيني، وتبني خيارات الترحيل والوطن البديل وما صاحبها من أفكار اعتنقها مؤسسو الكيان للتعامل مع الشعب الفلسطيني. 

صحيح أن بعضًا من زعماء اليمين قد يكون لهم استفادة شخصية من التعديلات التي تجري على المنظومة القضائية مثل نتنياهو ودرعي، ولكن ما يُشرِّعه الكنيست من قوانين لم تنحصر فقط في التشريعات القضائية، ولكنها تشريعات تشمل تثبيت الفكر اليميني على الصعيد الداخلي للدولة وعلى الصعيد الخارجي في العلاقة مع الفلسطينيين والعالم، وهو الأمر الذي تسبب في إزعاج الإدارة الأمريكية التي ما زالت تدعو إلى حل الدولتين رغم عدم اتخاذها أي خطوات لدعم هذا التوجه منذ مدة طويلة. 

خلاصة القول أن اليمين بشقيه الديني والقومي، يحاول العودة بالدولة فكريًا ودستوريًا ودبلوماسيًا وعسكريًا وأمنيًا إلى بدايات نشأتها، باعتبار أن ذلك العامل الأهم في استمرار وجودها والحفاظ على رسالة مؤسسيها.

فهل نعود نحن الفلسطينيين إلى بداياتنا الثورية كما يعودون هم لبداياتهم الصهيونية؟