العدوان الغاشم الذي شنته قوات الاحتلال على مخيم جنين، فجر يوم الاثنين الماضي، واستمر 48 ساعة، مصحوبة بمئات الجنود من مختلف النخب العسكرية، والكوماندوز، وبمساعدة قوات سلاح الهندسة والجو، ترافقهم أكثر من 100 آلية عسكرية ما بين ناقلات جند، وجيبات عسكرية، وجرافات، ومدرعات مزودة بالرشاشات الأوتماتيكية ...، التي حاصرت المدينة وطوقت الشوارع المؤدية إلى مخيمها من مختلف محاورها، وبهدف عزل جنين كاملة عن محيطها الجغرافي المتصل مع باقي مدن الضفة، والاستفراد بأهلها، إذ وصل عدد الشهداء إلى 12 شهيداً، وأُصيب 140 آخرون، بينهم 20 وصفت جراحهم بالخطيرة، بحسب وزارة الصحة، بسبب القصف العشوائي لمنازل المواطنين بالطائرات الحربية، إذ دمر 300 منزلاً، بالإضافة إلى تدمير الشوارع والبنية التحتية، بما فيها شبكات المياه والكهرباء والإنترنت، فما كان من المقاومين إلا أن تصدوا بما يمتلكونه من إمكانيات بسيطة لقوات الاحتلال، وزرعوا عبوات ناسفة على شكل كمائن، وأسقطوا خلال هذا العدوان عدة طائرات مسيرة.
ففي العادة يتم تحديد العمليات العسكرية لأي قوة وفق الأهداف المرسومة لها، ويحدد معها الوقت كتصور عن المدة الزمنية التي ستستغرقها العملية العسكرية لتحقيق الأهداف، فالاحتلال أعلن أن العدوان العسكري في مخيم جنين، الذي أسماه “البيت والحديقة”، يحتاج إلى 72 ساعة للقضاء على المقاومة هناك، ومع ذلك فشل في مواجهة المقاومين على أرض الميدان، وقد أجبر صاغراً على اختصارها إلى 48 ساعة، دليل على فشله في بلوغ أهدافه المتمثلة بالقضاء على المقاومة في جنين، نظراً لوعيها واستعدادها للقتال وتنفيذ كمائن محكمة فاجأت قواته، التي وقعوا فيها منذ الساعات الأولى لبدء العدوان، وفي نفس الوقت خشيته من أن تتدرج كرة النار إلى أماكن أخرى في الضفة وغزة، وما أدراك بصواريخ غزة، التي أصبح يحسب لها ألف حساب، أو تلك القادمة من جنوب لبنان والجولان بمعنى أدق، إن الاحتلال يحسب حساباً لـ"وحدة الساحات"، التي بالفعل انطلقت شرارتها بالعملية الفدائية المزدوجة “الدهس وإطلاق النار” في عقر داره وسط (تل أبيب)، التي نفذها الشهيد عبد الوهاب خلايلة (23 عاماً)، من بلدة السموع في الخليل، انتقاماً لشهداء جنين، واللافت أنها جاءت بينما كانت الأجهزة الأمنية للاحتلال في أعلى مستوى من التأهب والاستنفار، تحسباً من ردَّات فعل انتقامية، وفي الوقت الذي تقوم حكومة نتنياهو بالترويج لتبرير عدوانها على جنين بمنع عمليات كهذه، وبغض النظر عن نتائجها، إلا أنها تعتبر ضربة لخطوط الاحتلال الخلفية، كما ضربت جنين خطوطه الأمامية، إذ تعتبر ضربة قاسمة وقاسية لأجهزته الأمنية والاستخباراتية على حد سواء، في عملية التخطيط والوصول وتحديد المكان والزمان من المنفذ، كون أنها جاءت متزامنة مع عدوانه على جنين، أراد منها إرسال رسالة واضحة مفادها أن داره وبيته أوهن من بيت العنكبوت، وأما ما عدها حديقة فلا تزال قلعة صامدة لا تنكسر ولن تلين.
يعتقد نتنياهو أنه من خلال عدوانه على مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين بارتكابه المجازر وإلحاقه الدمار والخراب قد حقق إنجازاً ما، يكسب به ماء وجهه أمام جمهوره المتعطش لدماء الفلسطينيين، فخرج وزير جيشه غالانت، ليقول: “نستطيع الآن دخول جنين بسهولة”، وكأنه متأكد أنه قضى على المقاومة، وهذا غير صحيح بالمطلق، بدليل اندحاره بقواته تحت نيران ورصاصات المقاومين المنهمرة عليهم، التي كانت تعقبهم حتى آخر دقيقة، وقد أعلن مقتل جندي وإصابة عدد آخر، ولو أنه معتاد على إخفاء حقيقة خسائره، لكن فضائحه تتكشف من وقت لآخر، وما المظاهرات والاحتجاجات في الشارع الصهيوني ضده، إلا تعبير واضح عن فشله.
يدرك الاحتلال جيداً أن حالة المقاومة، التي تعبر عنها مدينة جنين ومخيمها، امتدت إلى باقي مدن وقرى الضفة، هي انتفاضة شعبية مستمرة تجدد نفسها جيلاً بعد جيل، وإذا أعتقد أن محو جنين عن الوجود، كما يحلو له، بهدف اجتثاث المقاومة، فإنه مخطئ الحسابات والتقديرات، لأن جنين هي واحدة من عدة جبهات تقارعه، وقد اعترفت بذلك مؤسساته الأمنية والسياسية والعسكرية، بأن المقاومة في جنين وباقي مدن الضفة أصبحت أمراً واقعاً ومستمراً لا يمكن القضاء عليه بصورة حاسمة، لقول الناطق بلسان جيش الاحتلال، غيل هغري: “إن العدوان العسكري على مدينة جنين ومخيمها لم يحقق الأهداف المرجوة، مشيراً إلى أنه لا توجد حلول سحرية لمواجهة المقاومة، وأن الجيش سيعود إلى جنين حال توفر معلومات استخباراتية"، وهذا دليل إضافي على فشل العدوان العسكري برمته، وقد سبقها فشله الاستخباراتي، بل هذا هو التفسير الصحيح لفشل جيش الاحتلال في مواجهة المقاومين على أرض الميدان، الأمر الذي دفعه للاندحار بسرعة لعدم تعريض جنوده إلى الخطر، ما يدلل على معيار حسابات الربح “الصفرية” والخسارة “المدوية” في صفوف الاحتلال.
اعتقد الاحتلال الإسرائيلي أن معسكر جنين عبارة عن حديقة لتنزه جنوده، وبأن المقاومة غير مستعدة وسوف تستسلم من أول دقيقة، ولكنه تفاجأ ببسالتها وجراءتها وعنفوانها وزخمها الشعبي المحتضن لها، على حالة النقيض للسلطة التي تنسق أمنيًّا وتتعاون معه ميدانيًّا، فقد أذاقته من وبال أمره بما لا رأت عين ولا أذن سمعت، فوجد أن في الحديقة أسوداً بانتظاره، وقد رُويت بدماء شهدائها الأطهار، وأنها عصية على الانكسار والاحتلال بصمود رجالها وتضحيات أهلها ورفع معنويات مقاتليها الشجعان، الذين يتصدون ببسالة للعدوان، على الرغم من اختلاف موازين القوى، وبعدها سيفكر الاحتلال ألف مرة بالعودة لشن عدوان جديد على جنين، لخشيته من الهزيمة مجدداً أمام مقاومة شرسة، على غرار هزائمه المتلاحقة في غزة، التي كسرت هيبته و”قلت قيمته”.