ما إن بدأ الليل يتسلل إلى أرجاء جنين الإثنين، حتى بدأ العدوان الإسرائيلي على المدينة ومخيمها شمالي الضفة الغربية المحتلة بقصف منزلين بالطائرات الحربية وغير المأهولة التي لم تفارق السماء، ثم أتبع ذلك بقصف منزل ثالث ومناطق مفتوحة، وتوالت الغارات وأصوات القصف والانفجارات وزخات الرصاص، وبدأ اقتحام أكثر من 150 آلية ومدرعة وجرافة عملاقة ونحو 1000 جندي للمخيم، مخلفين دمارًا واسعًا.
وهدمت جرافات الاحتلال أجزاء من بوابة المخيم وغيرت معالم ساحته التي كانت تقام فيها بيوت العزاء والأفراح والتجمعات الشعبية والوطنية، وقصفت قواته أجزاء من مسجد "الأنصار" وعددًا من المنازل، وأحدثت حفرًا واسعة على طول الطريق الواصل من المستشفى الحكومي إلى بوابة المخيم، ودمرت بُنى تحتية واقتلعت أعمدة كهرباء وقطعت أنابيب المياه.
على جانب الطرقات سيارات متفحمة داستها جرافات الاحتلال وبقيت شاهدة في مكانها على حجم الإجرام الإسرائيلي، وشوارع إسفلتية خرجت الرمال من أسفلها ولم تعد صالحة للاستخدام، وألسنة دخان تتصاعد من المنازل، حتى مسرح الحرية الثقافي الفني لم يسلم من هدم أجزاء منه، إلى جانب محال تجارية، في مشاهد أعادت للأذهان الدمار الذي خلّفه عدوان "السور الواقي" واجتياح المخيم عام 2002.
مسرح الحرية
داخل مسرح الحرية، لم يبقَ مقعد فارغ داخل قاعته الواسعة، جميع الكراسي امتلأت لكن ليس لمشاهدة عرض مسرحي، بل لمعايشة نكبة جديدة، إذ كان جميع من فيها محتجزين تحت تهديد بنادق جنود الاحتلال بعدما اقتحموا المكان وحولوه لمركز توقيف واحتجاز.
ولم يستطع المسؤول الإداري في المسرح مصطفى شتى إحصاء الأضرار التي تعرض لها المسرح لصعوبة الوصول للمكان المحاصر، وذلك لحظة إجراء صحيفة "فلسطين" مقابلة معه عبر الهاتف، موضحًا أن جيش الاحتلال حول المسرح إلى ثكنة عسكرية وحارة أشباح، ودمر الساحة الرئيسة فيه بالجرافات، إضافة للبوابات وتذكار الشهداء.
وطال الدمار البنى التحتية في المخيم، وهو ما عدّه شتى "عقابًا جماعيًّا للحاضنة الشعبية للمقاومة".
وهذه المرة الثانية التي يتعرض فيها المسرح للاستهداف والأضرار، فعام 2002 هُدم خلال اجتياح المخيم، وأعيد بناؤه عام 2006، وبثّت فيه الحياة من جديد، وقد مثّل معلمًا وطنيًّا وثقافيًّا بالمخيم وجزءًا من حالة المقاومة وتوعية الأجيال الناشئة وإعطاء مساحة للتفكير النقدي بأسلوب إبداعي، وفق شتى.
اقرأ أيضًا: خبيرة أممية: عدوان الاحتلال على جنين قد يُشكّل جريمة حرب
وقدم المسرح مجموعة من الأعمال الفنية، منها مسرحية "الحصار" عام 2017 التي تناولت حصار الاحتلال المقاومين داخل كنيسة المهد عام 2002، وحظيت بانتشار عالمي واسع، وفي الآونة الأخيرة عرض مسرحية "مترو غزة" وعرضت كما يقول شتى، في جنين ورام الله وحيفا وتتحدث عن التواصل الجغرافي بين الضفة والقدس وغزة، معربًا عن أمله أن تعرض في القطاع المحاصر قريبًا.
"إيناس" بقيت وحيدة
لحظة تفجير باب منزلها، لم تتمكن إيناس عباهرة (30 عامًا)؛ من ذوي الإعاقة الحركية، النزول مع عائلتها للطابق الأرضي لحظة اعتلاء قوات الاحتلال سطحه قرب "دوار الداخلية" المطل على المخيم، فعاشت لحظات خوف وقلق اجتاحت قلبها، تستمع لأصوات تخريب وتكسير في الجدران في أثناء إحداث فتحات للقناصة.
احتجز جنود الاحتلال جميع من بالبيت في الطابق الأرضي من صباح الاثنين حتى الساعة الواحدة من مساء الثلاثاء، وصادروا هواتفهم ومنعوا خروجهم لبقية شقق المنزل، حتى أنهم رفضوا السماح لسيدة بالخروج لإحضار حليب لإرضاع ابنها.
طوال تلك المدة انقطعت عائلة عباهرة عن العالم، وباتت لا تسمع إلا أصوات الإسعافات والقصف المتواصل. بصوت ممزوج بالصدمة تروي إيناس لـ"فلسطين" ما جرى في عمارتهم المكونة من ثلاثة طوابق: "تركوني وحيدة لكوني لا أستطيع التنقل بالكرسي المتحرك، واحتجزوا عائلتي في الطابق الأرضي وحولوا المنزل إلى ثكنة عسكرية".
اقرأ أيضًا: بالصور تشييع شعبي مهيب لشهداء العدوان الإسرائيلي على جنين
إيناس التي عاصرت اجتياح عام 2002، لم تعش أصعب مما واجهته الإثنين الماضي: "مكثوا في بيتنا ساعات طويلة، وفجّروا مدخله، واعتدوا على كل شيء، خلعوا أرضية إحدى الشقق، وصادروا الهواتف فلم نعرف ماذا جرى في الخارج، طوال الوقت كنا نسمع أصوات إزاحة الأثاث، والأطفال كانوا مروعين".
نزوح وتشرد
في مشهد آخر، ومع بدء حلول مساء الإثنين، أفزعت طرقات متواصلة عائلة كفاح ضبايا (33 عامًا)، إذ كان خلف الباب أحد أفراد طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني ينادي بصوت لاهث ومتقطع: "معكم ربع ساعة، اخرجوا، بدهم يقصفوه".
كسر كلام المسعف حالة السكون داخل المنزل، وسادت حالة من الهلع والخوف بين أفراد العائلة المكونة من 15 فردًا، في مشهد مكرر لتجربة النزوح والتشرد والقصف.
بواسطة سيارة إسعاف غادر كفاح وعائلته المنزل، وودع ذكرياته فيه بنظرات سريعة ودموع حسرة وفراق سالت من الأطفال والنساء، لم يحملوا أيّ شيء معهم سوى الملابس التي يرتدونها، ونزحوا لمنطقة أخرى داخل مدينة جنين بعيدًا بعض الشيء عن مسرح الأحداث.
"بيتنا يضم طابقين، لم أستطع الذهاب ومعاينة القصف، لكنني أخبرت أنه تعرض لذلك، عندما غادرنا أيضًا غادرت نحو خمس عائلات البيوت المحيطة، خرجنا بدون أي شيء" يروي لـ"فلسطين" بصوت أثقله وجع التشرد والحزن على قصف منزله.
جرب كفاح التشرد لحظة قصف منزله عام 2002 وعاش حياة كارثية تعاد فصولها الآن، ما يهونها حجم التلاحم الشعبي بين أهالي مدينة جنين الذين فتحوا أبوابهم لاستقبال المشردين بفعل القصف كحال عائلة ضبايا.