فلسطين أون لاين

تقرير "صنعت في فلسطين".. كمنجات احترافية تجوب العالم

...
"صنعت في فلسطين".. كمنجات احترافية تجوب العالم
رام الله-غزة/ هدى الدلو:

على طاولة مستطيلة الشكل تمتلئ بالأدوات والمعدات، ينشغل شحادة شلالدة في اكتشاف قلب آلة الكمنجة وصناعة أخرى جديدة بحرفية عالية، تغمره السعادة وهو يحفر على جدارها الداخلي صنع في فلسطين باللغة الإنجليزية.

نما شغف شلالدة بالآلات الوترية عندما كان صبيًّا صغيرًا، فبيت عائلته مجاور لمدرسة موسيقى محلية، فارتبطت كل تخيلاته الطفولية بسحر الأصوات الموسيقية.

يقول لصحيفة "فلسطين": "بدأت رحلتي وأنا في سن المراهقة كنت أتلصص على أصوات الموسيقية المنبعثة من جمعية الكمنجاتي، وكنت أتمنى تعلم العزف على هذا الجمال لأمحو شيئًا من الذاكرة المحشوة بأحداث الانتفاضة الثانية".

وكانت "الكمنجاتي" قد تأسّست عام 2005، في البلدة القديمة برام الله حيث يسكن، فانضمّ شحادة إليها في عمر 14 عامًا، بغية تعلّم العزف على العود، ومن خلال الجمعيّة، أُتيحت له فرصة التعرّف على جميع الآلات الموسيقيّة عن قرب، وقد أحبّ على نحو خاصّ شكل الكمان وانحناءاته، لذلك ترك تعلُّم العود بعد السنة الأولى، وتحوّل إلى تعلّم العزف على الكمان.

فرصة للمشاركة

ويلفت شلالده أنه في أثناء مدة العزف على الكمان في الجمعيّة، شهد زيارات العديد من مصلحي الآلات الموسيقيّة من خارج فلسطين، "فبدأ اهتمامي بالتصنيع والعمل اليدوي، كنت في البداية أراقبهم بداعي الفضول، ثمّ تزايد اهتمامي بصناعة الآلات نفسها".

رافق شلالدة مصلّحي الآلات الموسيقيّة في زياراتهم إلى فلسطين، وراقب الصيانة وطرقها عن كثب، وأبدى اهتمامًا كبيرًا وشغفًا بالتعلّم، فأعطاه مصلّحو الآلات فرصًا للمشاركة في صيانة أجزاء بسيطة من الآلات، ليساعد في صيانتها في الجمعيّة. 

وبدعوة من أحد الأساتذة الذين علّموه الصيانة في البدايات، سافر شلالدة إلى إيطاليا حيث أقام مدّة 3 أشهر، صنع فيها أوّل كمانين له دونما تعليم أكاديميّ، وقد كانت تلك بداية شحادة الحقيقية في صناعة الآلة الموسيقيّة واكتشاف أسرارها، عوضًا عن صيانتها.

وبهذه البداية الموفقة، نصحه أستاذه بإكمال تعليمه في بريطانيا، وحصل على منحة من "مؤسّسة عبد المحسن القطّان" و"جمعيّة الكمنجاتي"، ودخلها ليحصل منها عام 2012 على شهادة البكالوريوس، في "صناعة وترميم آلة الكمان "في "كلّيّة الكمان"، ثمّ عاد شحادة إلى فلسطين ليكمل مشوار صناعة الآلات وصيانتها، مختصًّا بعائلة الكمنجة: الكمان، والفيولا، والتشيلو، والكونترباص.

احتاج شلالدة أكثر من ستين يومًا لصناعة الكمنجة الأولى، كان شغوفًا لليوم الذي يصل فيه للنهاية ليراها بشكلها الكامل. 

ليست أعمال نجارة

عند عودته إلى رام الله، أهدى شلالدة الكمان الأول الذي صنعه لشقيقته، وأنشأ أول ورشة لإصلاح الآلات الوترية وصيانتها وصنعها.

ويلفت إلى أنه يعتمد على مراجع وكتب خاصة في صناعة الآلات الموسيقية ولا سيما الكمنجات، إلى جانب الخبرة والاحترافية اللتين اكتسبهما من خلال دراسته.

ويقضي الشاب الثلاثيني جلَّ وقته في ورشته، وقد استطاع أن ينتج بداخلها 20 آلة موسيقية، وأصبح رائدًا في مجاله ويقدم الآلات الموسيقية محلية الصنع للموسيقيين في الداخل والخارج.

وعن طبيعة الأدوات التي يحتاجها في ورشته، يبين شلالدة أن غالبية المعدات التي يستخدمها في المتجر اشتراها في أثناء وجوده في بعض البلدان الأوروبية في فترة تدريبه وتعلّمه، بما في ذلك الخشب والأوتار التي هي أساس آلة الكمنجة.

ويتابع حديثه: "يعتقد البعض أني نجارًا فيقصدونني لتصليح بعض الأثاث الخاص بهم، ولكن صناعة الكمنجات تختلف كليًّا عن الأثاث من جميع الجوانب حتى على صعيد الأدوات المستخدمة، كما أن هذه الصنعة تحتاج إلى دقة وصبر تنتهي بعملية ضبط أوتار الآلة الموسيقية".

ويقوم شلالدة بصنع آلاته من الصفر، ويصمّمها يدويًّا بشكل كامل في ورشته، فيرسم مخطّطات الآلة يدويًّا، ثمّ يصنع القالب الأساسيّ، ويبدأ العمل عليه، وينتهي بطلائه في ورشته، عن طريق خلط الموادّ العضويّة يدويًّا أيضًا، فيضفي لمسته الخاصّة على آلاته.

وتكمن متعة تلك الحرفة، في فكرة خلق شيء من الصفر وابتداعه، هذا الشيء هو الآلة، يستخدمها عازف ليُسعد آخرين أو يؤثّر فيهم، ومن ثَمّ تُورَّث هذه الآلة جيلًا بعد جيل.

ويقول شلالدة في هذا الصدد: "شعور الانتهاء من صنع آلة، شعور يشبه ولادة طفل جديد، والمفارقة أنّ لكلّ آلة جديدة شهادة صنع، أذكر فيها مواصفاتها، تمامًا كشهادة الميلاد".

وعلى الرغم من المتعة الكامنة في الصناعة، فإنّ الحرفة تحتاج إلى صبر وتركيز طويلين، وتحتاج إلى المعرفة بالعلوم الموسيقيّة، وعلوم الصوتيّات، وفهم طبيعة الموادّ كنوع الخشب، "فنوع الخشب هو الذي يدلني على الطريقة المُثلى لأتعامل مع كلِّ قطعة خشبيّة، وليس العكس". 

ويمضي بالقول: "يتجلى شغف الصانع بفهمه للصناعة، حين يسمع صوت الآلة، فيكوّن من صوتها فقط فكرة عن كيفيّة صناعتها وأجزائها الداخلية".

الخشب والتسويق

أمَّا بالنسبة إلى بعض المحددات والعقبات، فيقول شحادة إن الحصول على الأخشاب بحدّ ذاته ليس باليسير، فيستورد شحادة أخشاب القيقب والسبروس -نوع من أخشاب السرو -من أوروبا، وبخاصّة أخشاب أشجار جبال الألب الباردة، إذ إنّ الأشجار التي تنمو في المناطق الباردة، تكون حلقاتها أقرب، وتنمو الأشجار ببطء، فتكون كثافة أخشابها أكبر لتحتمل البرد والريح، ويتعيّن على الصانع انتظار الأخشاب، لتجفّ مدّة من الزمن، تتعدّى أربع سنوات في بعض الأحيان، ولا يمكن استعمال الأخشاب محليّة الصنع.

ويذكر شحادة أنّ بعض التجّار العالميّين يحاولون أحيانًا شراء آلاته بسعر بخس، يصل إلى نصف سعر الآلة الأصليّ، لكون الآلة فلسطينيّة، وهو ما يرفضه، فإضافة إلى اهتمام شحادة بالجودة العالية، إذ يصنع الآلة في مدّة قد تصل إلى ثلاثة أشهر للآلة الواحدة، واعتماده على بيع الآلات الاحترافيّة والصيانة اعتمادًا كاملًا، مصدرًا للدخل، فهو لا يصنع آلات تجاريّة بجودة منخفضة بغرض البيع.