تغريبة جديدة تعيش فصولها عائلة ضبايا، بعد أن أجبرهم الاحتلال الإسرائيلي على مغادرة منزلهم في مخيم جنين، أسوة بأربعة آلاف فلسطيني نزحوا تحت تهديد القصف.
وصلت "أم حسين" إلى ساحة مستشفى ابن سينا، وهي بالكاد تستطيع التقاط أنفاسها من الفزع، فمع غروب شمس اليوم الأول من العدوان، لم تدرك أن تلك الليلة لن تنام في بيتها بفعل جنون طائرات الاحتلال الإسرائيلي وصواريخها، التي نالت من منازل المخيم، ودبت الرعب في قلوب صغارها الذين يعيشون ما عاشه نظراؤهم في قطاع غزة مئات المرات.
أصغر أحفاد أم حسين (53 عامًا) لم يترك حضن جدته للحظة؛ خوفًا من أصوات الطائرات والانفجارات، وقد احمرت عينيه من البكاء المتواصل.
وأجبرت قوات جيش الاحتلال عشرات المواطنين على إخلاء منازلهم في المنطقة القريبة من دوار الحصان، المدخل الشرقي الرئيس لمخيم جنين، مستخدمًا مكبرات الصوت لإرغام العائلات على ترك منازلهم، حيث لجأت غالبية العائلات إلى ساحات المستشفيات، وقاعة بلدية جنين، واتخذت منها مأوى مؤقتًا.
وأم حسين أم لشهيد، ولأسير، ولثلاثة جرحى، وتصف ما جرى بالتشريد القسري، الذي ترك مئات العائلات في حالة من العجز والتشتت، "أصبحنا نعيش في ظروف غير ملائمة وغير آمنة".
اقرأ أيضًا: جنين عنوان للصمود وكسر غطرسة الاحتلال
وتضيف عن ظروف مغادرتها المنزل برفة حفيديها: "وصلنا اتصال هاتفي من الجيش، يطلب منا إخلاء البيت لقصفه، بزعم وجود مقاومين في المنزل"، موضحة أن المنزل المكون من عدة طوابق يعيش فيه نحو 50 فردًا، نقلتهم سيارات الإسعاف إلى ساحة المستشفى.
وتصف الحالة التي خرجوا بها كيوم التغريبة الفلسطينية، "يوم فرّ أجدادنا من بيوتهم وقراهم، لم نحمل معنا شيئًا، آملين العودة إليه".
وتضيف: "أكثر شيء أوجعني في قصف المنزل، أنه يضم ذكريات ولادتي لابني الشهيد وطفولته وشبابه، وحتى استشهاده الذي لم يمر عليه سوى ثمانية أشهر".
تصمت أم حسين قليلاً قبل أن تتمم حديثها: "الحمد لله المال معوض، المهم ربنا يسلم أبناءنا وشبابنا"، مشيرة إلى أن رحالها حطت في بيت شقيقها، الذي حملت إليه معاناة النزوح والتشرد وفقد المأوى.
وتستذكر الجدة عملية "السور الواقي" قبل عشرين عاماً، حين أجمعت وأفراد عائلتها على عدم ترك المنزل، والبقاء صامدين بداخله، بينما أجبرهم الاحتلال في هذا العدوان على إخلائه.
وأظهرت صور تداولها ناشطون على مواقع التواصل لعائلات فلسطينية، وهي تخرج من بيوتها التي تحاصرها الآليات العسكرية الإسرائيلية، باتجاه المستشفيات، حيث بلغ مجموع عدد النازحين نحو 4 آلاف مواطن، وفق تصريح رئيس بلدية جنين نضال عبيدي.
يوم صعب
وفي ساعة مبكرة من فجر الثلاثاء اجتمعت "أم صهيب" الغول وأفراد عائلتها حول شمعة بعد انقطاع التيار الكهربائي، بفعل تدمير الاحتلال للبنية التحتية في المخيم، ولكن بعد اشتداد القصف الإسرائيلي حولهم، وتدمير البيت الذي يجاورهم قرروا مغادرة المخيم تحت ضغط الخوف، والحالة النفسية الصعبة للأطفال.
وتلفت أن العدوان على المخيم يأتي بعد نحو أسبوعين على استشهاد ابنها "صهيب"، في إثر قصف مركبته بطائرة مسيرة لتنفيذه عملية ثأر للشهيد طارق عز الدين، استهدفت سيارة للمستوطنين قرب مستوطنة "دوتان".
اقرأ ايضًا: 12 شهيدًا و117مصابًا ودمار واسع جرّاء العدوان على جنين
وتقول: إن القصف الشديد الذي طال المخيم أرعب فتياتها ما دفعها دون تردد للخروج منه، مشيرة إلى أن عمليات التمشيط العسكرية والقصف جعلت عملية النزوح شبه مستحيلة في ساعات النهار، "خرجت وعائلتي بأعجوبة من أمام الجيش وقناصته، والذي طلب منا رفع أيدينا إلى الأعلى أثناء سيرنا في الشارع وتحت وطأة الصواريخ والقذائف".
وتضيف أم صهيب: "يوم لا ينسى ولا يمحى من الذاكرة بتفاصيله الصعبة، وساعاته الطويلة التي مرت إلى أن وصلنا إلى بيت صديق للعائلة".
وتوضح أن ما يشهده مخيم جنين يعد جريمة إنسانية، تتمثل في الإخلاء القسري للعائلات الفلسطينية، وتهجيرهم من منازلهم تحت ذرائع أمنية باطلة، فتستخدم قوات الاحتلال تكتيكات الترهيب والتخويف لفرض سيطرتها على المخيم، وهذا العمل يعيد إلى أذهانهم المأساة التي يعانيها شعبهم.
وتمضي إلى القول: "ما يمارسه الاحتلال بحقنا كفلسطينيين ما هو إلا انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، إذ نعيش معاناة جسيمة، فنجبر على مغادرة منازلنا وترك ممتلكاتنا وتاريخنا وذكرياتنا الشخصية خلفنا للبحث عن الأمان والحماية، هذه الجريمة تعكس حجم المأساة التي يعيشها شعبنا".
ويعيش في مخيم جنين أكثر من 14 ألف شخص، وحتى ساعات ليل اليوم الأول من العدوان تم إجلاء قرابة 500 عائلة، بمتوسط 5 أفراد على الأقل من كل عائلة، سواء من تمكنوا من الهرب بأنفسهم، أو من أجلتهم سيارات الإسعاف، وتحولت ساحة مستشفى جنين الحكومي، المحاذي لمخيم جنين إلى محطة انتظار للنازحين.