قدّر الله لجنين أن تنافس غزة في مقارعة الاحتلال وكسر الغطرسة الإسرائيلية، حيث باتت تلك البقعة الفلسطينية محرمةً على جيش الاحتلال، وأضحى اقتحامُها يتطلب استنفار جيش الاحتلال، وتحشيد آلاف الجنود ومشاركة العديد من الكتائب العسكرية، وعشرات المركبات المصفحة وأسراب الطائرات، وسائر الوحدات المقاتلة في جيش الاحتلال لعله ينجح ولو لمرة في استعادة هيبته التي داستها أقدام المقاومين الفلسطينيين مرات ومرات في شوارع جنين، وزقاق مخيمها المحرر من دنس الاحتلال.
العدوان المتواصل ضد مخيم جنين، الذي تخلله القصف الجوي، وتدمير البنى التحتية، واستهداف بيوت اللاجئين وتجريف الطرقات، وانقطاع المياه والكهرباء عن غالبية أحياء المخيم، أسفر حتى اللحظة عن ارتقاء ثمانية شهداء، وإصابة أكثر من ثمانين جراح العديد منهم خطرة، في مشاهد أعادت إلى الأذهان عدوان الاحتلال على جنين قبل عقدين من الزمن، وارتكابه مجازر أسفرت عن تدمير المخيم، وارتقاء مئات الشهداء العزّل نتيجة ذلك العدوان.
واليوم يحاول رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو تحقيق العديد من الأهداف من عدوانه الجديد ضد جنين، فهو يحاول جاهدًا الهروب للأمام من أزمته الداخلية والصراعات السياسية المتفاقمة في المجتمع الإسرائيلي، كما يسعى لاستعادة سياسة الردع التي هشمتها المقاومة الفلسطينية الصامدة في جنين وأخواتها من محافظات شمال الضفة المحتلة.
ربما يكون هدف الاحتلال من عمليته الأخيرة في جنين هو إضعاف المقاومة الفلسطينية في شمال الضفة، لكن الهدف الأسمى لحكومة نتنياهو المتطرفة هو كسب الهدوء على الأرض لأطول مدة ممكنة بما يتيح لها تنفيذ مشروعها الاستيطاني الكبير الذي تسعى به إلى السيطرة التامة على جميع مناطق الضفة المحتلة، وإنهاء حلم بناء الدولة الفلسطينية المستقلة في المستقبل.
ربما كان الغطاء السياسي والدبلوماسي الأمريكي والأوروبي هو أكثر ما يساعد حكومة الاحتلال على مواصلتها انتهاك القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وضربها عرض الحائط باتفاقيات جنيف وجميع المواثيق الدولية التي تكفل حماية اللاجئين الفلسطينيين، وضمان حقوقهم بحياة كريمة، فضمان كيان الاحتلال للفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، وتدخل الإدارة الأمريكية لمنع ملاحقة قادة الاحتلال أمام المحاكم الدولية إنما يمثل شراكة فعلية في ارتكاب جرائم الاحتلال في جنين، وتعمّد انتهاك القوانين الدولية دون ملاحقة قضائية.
التطبيع العربي، وهرولة بعض النظم المُنبتّة عن وجدان شعوبها المعادية للاحتلال مثّل تشجيعًا للاحتلال لمواصلة عدوانه ضد الفلسطينيين، كما أن التعاون العسكري والأمني والاقتصادي البغيض مع كيان الاحتلال هو شراكة فعلية في جريمته ضد الفلسطينيين العزّل، كما أن الصمت الرسمي العربي، إلا من بعض بيانات الإدانة الخجولة، هو إقرار للاحتلال بالاستمرار في ارتكاب جرائمه ضد المدنيين، فالصمت ساعة الحاجة الماسة إلى الكلام لا يمثل حيادًا بل موافقة ضمنية على ارتكاب الجريمة.
وداخليًا فإننا كفلسطينيين نشعر بغصة كبيرة إزاء تمسّك بعض الفلسطينيين السذج من أصحاب المصالح الخاصة بالتنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال بذرائع ومبررات واهية، ونراها جريمة لا تقل خطورة عن جريمة الخيانة العظمى، فتحرير فلسطين يبدأ من وحدة الكلمة والميدان تحت راية المقاومة، وتطهير الصف الداخلي، والحذر من عيون الاحتلال وأذنابه المنتشرة هنا وهناك.
ونحن إذ نتابع عدوان الاحتلال على جنين اليوم فإننا على ثقة بأن استئصال المقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة بات حلمًا إسرائيليًّا بعيد المنال، فخلايا المقاومة الفلسطينية اليوم هي في حالة تمدد جغرافي، كما أن قدرتها على امتصاص ضربات الاحتلال باتت واضحة، فالاعتقالات والاقتحامات المتواصلة في جميع مدن وبلدات الضفة لم تنجح في تحقيق أهداف الاحتلال بمنع إعادة بناء القدرات العسكرية للمقاومة في الضفة، وقناعتها بأن تنفيذ عملية اجتياح كامل لمخيم جنين وارتكاب المزيد من المجازر ستكون أثمانه كبيرة، ومن شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه لمواجهة عسكرية مفتوحة مع الاحتلال في عدة جبهات وليس في جبهة جنين وحدها.
واليوم إذ تعود جنين من جديد لتقول كلمتها في ساحة المواجهة مع الاحتلال، فهي ما تزال في اليوم للمواجهة، ونجحت مقاومتها الباسلة في صد العدوان الذي يشارك فيه أكثر من ألف جندي إسرائيلي، كما تمكنت من إسقاط ثلاث طائرات إسرائيلية مسيرة دون طيار فوق سماء مخيم جنين، ونفذ أبطالها كمائن مُحكمة للقضاء على جنود الاحتلال المشاركين في الهجوم، ونجح ثوارها ورجالها في تفجير وإعطاب عدد من الآليات العسكرية، وإلقاء عبوات ناسفة محلية الصنع نحو القوات الإسرائيلية المُقتحمة للمخيم، بما يشير إلى صلابة المقاومة في جنين، وقدرتها على تحدي عنجهية الاحتلال.
ختامًا فإن صمود المقاومة في جنين لأيام عديدة هو بمثابة فشل ذريع لعدوان الاحتلال، فحكومة الاحتلال التي رفعت شعار استئصال المقاومة في جنين ماذا عساها أن تفعل حين تبرز بعض المشاهد المتلفزة لقتل أو أسر جنود الاحتلال في قلب جنين، بل ماذا عساها أن تفعل إذا ما تدخلت جبهة أخرى لإسناد جنين، وكيف ستفسر لجمهورها الإسرائيلي واقع الحال حين تنجح المقاومة في تنفيذ عمليات فدائية في الداخل المحتل، فجميع تلك التساؤلات لا إجابة عليها لدى حكومة نتنياهو التي تتمنى أن تنتهي معضلة جنين في أيام قليلة.