داخل حجرة أشبه بغرفة العمليات، يجري مجموعة من الشباب عمليات دقيقة لكتاب أنهكه الإهمال واستهلكت أوراقه الحشرات والرطوبة، وبجانبه "مخطوطة" خلّدت ذكرى أصحابها الذين دوّنوها-لربما بحبر الدم، لا فرق ما دامت تشكو العلة ذاتها.
داخل مركز "عيون على التراث"، في مدينة غزة، يعكف مجموعة من الشباب على ترميم عشرات الأوراق والمخطوطات والصحف التي يزيد عمر العديد منها عن 100 عام.
حنين السرساوي ساقتها الأقدار إلى المركز في سياق مشروع للترميم والصيانة الوقائية بتمويل من المكتبة البريطانية ومتحف "هيل"، لتقضي فيه جلّ وقتها، إذ تجد نفسها تغوص بين وُريقاتٍ نادرة من كتب مرّ عليها مئات السنين.
تسرد حنين (27 عامًا) تجربتها مع ترميم الكتب لـ"فلسطين" وقد ارتدت رداءً أبيض وقفازاتٍ وحملت بين أصابعها فرشاة بدت كمبضع جراح: "الكتب التي أرمّمها نادرةٌ بقيمتها العلمية والتاريخية ومصدرٌ للمعلومات الثقافية".
وعند حنين يأتي الكتاب في مرحلته الأولى، وهي "عملية الصيانة الوقائية"، تبدؤها بترقيم الصفحات، وتحديد نوع الحبر عبر مادة "كحولية" تساعدها على معرفة إذا ما كان حبر كربونيًّا، أو حديديًّا.
تنتقل خريجة الرياضيات بعد ذلك لفحص جودة الورق وحموضته، حتى تتمكّن من وضع العلامات المائية والأختام، ثم تعمل على قياس أبعاد الصفحة طولًا وعرضًا وارتفاعًا، وبعد هذه العملية تكون قد اختارت الأدوات المطلوبة لعملية الصيانة.
وبعناية مشدّدة، تناولت حنين رواية "الوارث" لكاتبها "خليل بيدس" أوّل رواية فلسطينية كُتبت عام 1921، تلك الرواية التي أعيت مرمّمتها، فقد أتتها بأوراقٍ بالية، لا تقوى على التنظيف والترميم، وبأسف تقول: "هذه الرواية لا أجرؤ على مساسها خوفًا عليها من تكسّر أوراقها".
وعن الأدوات التي تستخدمها، أخذتنا حنين في جولة قصيرة شرحت خلالها وظيفة كل أداة: "فهنا السباتيولا، وهي أداة استخدمها لكشط الزوائد والعلائق بحذر شديد، وهذا المقصّ أزيل به الورق الزائد، وذلك الإناء يحتوي على المادة الكحولية التي تُفرّق من خلالها بين نوعي الحبر، لأختار الأداة المُثلى في إنقاذ الكتاب".
أرشفة رقمية
وبعد مرحلة الصيانة، ينتقل "المريض الورقي" إلى آلاء دويمة (28 عامًا) المسؤولة عن الأرشفة العلمية، التي تعمل على تصنيف الكتب والمخطوطات بحسب موضوعها، فمنها الفقهية (وهي أكثر المخطوطات) ومنها اللغوية والروائية وأخريات.
وفي القسم الثاني من الغرفة، تقف دعاء دويمة خلف كاميرا رقمية تحملها رافعة، وتعمل على تصوير المخطوطات والكتب حسب أرقامها المتسلسلة، مبتدئةً بواجهة الكتاب، "وإن كانت الواجهة مفقودة، أصور الصفحة الأولى منه، ثم أكمل التصوير حتى نهاية الكتاب".
بعدها تضع دعاء (28 عامًا) الصور في ملفّات "ميتا داتا" لنظام أرشفة عالمي مختص بأرشفة الوثائق التاريخية المعتمدة دوليًّا من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، ومرقّمة برقم دولي، فطاقم المؤسسة يدونها بالعربية ثم تُّترجم إلى اللاتينية والإنجليزية.
وفي المرحلة الأخيرة، تُجمع المخطوطات في صناديق خالية من الحموضة والرطوبة؛ حفاظًا على عمرها، ثم تُصان داخل خزانة حديدية ذات لون رمادي قاتم، وتُعلّل دعاء عدم حفظها في خزائن خشبية لكونها تساعد على نمو الحشرات وتآكل المخطوطات والأوراق والوثائق.
مخطوطات تاريخية
ومن أبرز المخطوطات التي تعمل المؤسسة على ترميمها حاليًّا، مخطوطة "عائلة بسيسو"، التي تُمثّل إرثًا زاخرًا للعالم أحمد بسيسو، الفقيه والأديب ومفتي الديار الغزية، وفقًا لسماح دويمة.
وتقول سماح: "اشتغل العالم بسيسو في مسجد السيدة الرقية بعد رحلة مليئة بالعلم والفقه عاشها في مصر، ألّف العديد من الكتب وأخذ إجازات من علماء كثر، إضافة إلى تلخيصات كتبت بخطّ يده نعمل على ترميمها".
وبين يدَي سماح، كتابي "مجموع المشتمل على الفوائد" و"نيل الأرب في مثلثات العرب" بخط العالم بسيسو منذ عام 1911، وكتاب "الفيض المستنير على مولد الطه البشير" الذي يُمثّل أبرز أعماله.
ذاكرة غزة
وهذا المشروع، بحسب المدير التنفيذي لمؤسسة "عيون على التراث" حنين العمصي، يقوم على إنقاذ العديد من الكتب والأرشيفات النادرة لعلماء مدينة غزة ولعائلاتها، معللةً: "هذه المجموعات بمثابة ذاكرة غزة ودرع أمنها التراثي والثقافي".
وتقول لـ "فلسطين": "المخطوطات والكتب هي جهد الأجداد منذ القدم، وكنز وثَّقوه على مدار الأجيال"، مشيرة إلى أنّ هذه المؤسسة هي الأولى من نوعها في غزة.
وتضيف: "نسعى للحفاظ على الإرث الغزّي من الضياع والاندثار، ومع انطلاق مشروعنا في شهر يونيو لعام 2022، أنقذنا العديد من الكتب النادرة".
وعن أصعب اللحظات التي تعرضت لها المؤسسة، تشير العمصي بأسف إلى ضياع 30% من جهد المؤسسة نتيجة تضرر المكان من قصف الاحتلال الإسرائيلي لمبانٍ مجاورة، "لكنّ هذا لم يثنِ عزيمتنا بل زادنا همةً وتحديًا لهذا الاحتلال الذي يحاول دثر تاريخنا على هذه الأرض".
وتقول: "إنّ تآكل الأوراق من حشرات العث ووصول المخطوطات بصورة رديئة غير محفوظة بطريقة سليمة لدى مُلّاكها إضافة إلى تعرض بعضها إلى فقد في صفحات معينة، يزيد عبء مهمة الترميم والصيانة التي تتطلب حذرًا وانتباهًا شديدَين".
تُجيب العمصي عن سؤالنا: "إلى ماذا يتطلّع المشروع وما رسالته؟" بالقول: "نسعى أن يكون لنا شراكة مع مؤسسات تراثية على مستوى فلسطين، وإنشاء مكتبة إلكترونية خاصة بالمؤسسة"، داعية كلّ من يريد الحفاظ على تراثه أن يجلبه إلى المؤسسة لترميمه وجعله وثيقة رسمية.
وتختم بالقول: "ما زال هناك كنوز مدفونة نسعى لاكتشافها، وإنقاذ مزيد من تراث المدينة وكتبها وصورها وصحائفها، ونقلها للعالم لإتاحتها للباحثين".